تعقيب على مقال " لننقذ مدرستنا" (الجزء 01) – بقلم ضو جمال
مقـــــــدمة
نشرت جريدة Le Soir d’Algerie بتاريخ 29/10/2016 مقالا مطولا تحت عنوان ” لننقذ مدرستنا”، ساهم في كتابته ستة أسماء جزائرية، أغلبهم أسماء بارزة أكاديميا وثقافيا، من بينهم أحمد جبار، محمد حربي، واسيني الأعرج وخولة طالب الإبراهيمي.
نظرا للاهتمام الذي حظي به المقال من طرف دوائر عدة، بل إن جريدة لوموند الفرنسية أعادت نشر أهم ما جاء فيه مشيدة به، ارتأينا أن نكتب ردا على أهم الأفكار والمغالطات التي وردت في هذه المقالة .
نشير أولا أن المقال كُتب بطريقة ملتوية وغير مباشرة وغلب عليه التلميح بدل التصريح وعدم ترتيب الأفكار في معظم الأحيان وعدم طرحها بشكل شجاع مباشر، مما يجعل القارئ غير العارف بهذا النوع من الصراع الفكري غير قادر على تمييز الهدف نظرا لوجود متناقضات تذهب بالقارئ يمنة ثم تأخذه يسرة.
لهذا فالرد والتعليق على المقال يتطلب أولا عملية تفكيك بنيوية وفكرية. فعنوان المقال من المفترض أنه يتحدث عن إنقاذ المدرسة ومنه المنظومة التربوية ولكن صلب المقال لا علاقة له بالمدرسة اللّهم إلا من ناحية النظر إليها على أنها المصنع الذي يتم فيه تغيير البنية الثقافية والأنثروبولوجية للمجتمع، وعليه كأحد حلبات الصراع الفكري والحضاري الأساسية. فالمقال إيديولوجي-إنثروبولوجي- سياسي بامتياز ، يعكس خيارات كاتبيه ونظرتهم لمفهوم الهوية وموقفهم من الإسلام ونظرتهم للانتماء الحضاري للشعب الجزائري وتاريخه. لهذا فإن أصحاب المقال كانوا يتحاشون بشكل ذكي كثير من الألغام ولكنهم وقعوا في تناقضات كثيرة.
المقال يتحدث بشكل أساسي عن اللغة العربية وحالها في الجزائر والانقسام المجتمعي والإيديولوجي حولها. تم استحضار التاريخ القريب والبعيد، السلفية الجديدة، المذهبية في الجزائر، مفهوم الحلال والحرام والمباح والمستحب وغيرها من المصطلحات، مفهوم الحديث الضعيف والحسن والموضوع، فضل الإغريق على العرب، تاريخ الكتابة العربية. كما تم استحضار فيديو المعلمة صباح وقصة أن العربية لغة أهل الجنة..إلخ. كما أثاروا عددا من القضايا الاجتماعية…لهذا فإن مسألة توضيح المغالطات والتدليس الذي ورد في مقال عدد كلماته 3666 وأفكاره مبعثرة بهذا الشكل يتطلب جهدا ومقالا مطولا يليق بقامة بعض من كتبوه.
اللغة العربية دورها ومكانتها
جاء في مقال الستة أن المدافعين بصوت عال عن اللغة العربية في الجزائر يعتبرونها مجرد لغة طقوس وتراث وليس كلغة ثقافة ، وحتى عندما يدركون ذلك فإنهم لا يستوعبون لا شكل ولا محتوى هذه الثقافة. ثم يضيف كاتبو المقال أن اللغة العربية لدينا هنا في الجزائر يتم تكلمه وتعلمها بشكل سيء ، لأنها من دون محتوى…إلخ”
يبدو أن أصحاب المقال إما أنهم لم يقرؤوا ما يكتبه المدافعون عن اللغة العربية ويكتفون بما يردده بعض البسطاء من عامة الناس ويحاولون إسقاطه على النخب وباقي المدافعين، أو أنهم يتعمدون اختزال المشهد بالشكل الذي طرحوه. فكل النخب التي تخوض هذا الصراع الفكري والحضاري لا تنطلق من اللغة العربية كونها مجرد موروث بل كلغة حضارة تمتد من المحيط إلى الخليج، وليست كحامل لثقافة فقط والتي تمثل جزءا من الحضارة. إن المدافعين عن اللغة العربية يعرفون جيدا محتوى الثقافة التي تحويها هذه اللغة ومدى ارتباط الأمة المصيري بهذه اللغة. فالعربية لها ميزة عن باقي اللغات في العالم. فهي اللغة الوحيدة التي استطاعت أن تبقى وتحافظ على وجودها ولم تتفكك بعد أربعة عشر قرن من انتشارها خارج أرضها الأصلية، فهذه اللغة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالإسلام وكتابه القرآن، ومهما حاولنا أن نفصل اللغة العربية عن الدين الإسلامي فإننا لا نستطيع، وهذا لا يعني أبدا أنها لغة حكر على المسلمين فقط أو لغة إجبارية على المسلمين، بل هي لغة الحضارة العربية-الإسلامية بكل ما احتوته من أعراق وأديان. والتاريخ شاهد على مساهمات لمسلمين وغير مسلمين وعرب وغير عرب في انتشار هذه اللغة وتطويرها. ولكن الفضل الرئيس في بقاء هذه اللغة حية لهذا اليوم هو الإسلام ولا شيء غير الإسلام، وعندما نتكلم عن الإسلام هنا فإننا نقصد بالضبط القرآن. فلولا القرآن والإسلام لكان مصير اللغة العربية مصير اللاتينية أو أسوأ ولتشظت إلى لغات عديدة، ولكنها حافظت على وجودها ولا يزال من تعلم العربية اليوم يستطيع قراءة نصوص وكتب مضى على تأليفها ثلاثة عشر قرنا أو يزيد وأشعار من العصر الجاهلي وفهمها، وحتى وإن تعذر فهم كثير من الكلمات فإن الأمر يعود بالأساس إلى أنها ألفاظ من عربيات بعيدة عن عربية قريش أو لم تعد مستعملة، وهذا أمر طبيعي يحدث في جميع لغات العالم. كما أن الأمر الذي يهمله الكثيرون عند الحديث عن علاقة اللغة العربية بالإسلام أو القرآن هو أن القرآن قام بعملية توحيد للعربية وصنع ما يمكن أن نسميه “عربية معيارية” أثرت في تطور العربية، لأن القرآن والأحاديث النبوية أيضا شكلا مرجعا وأصلا تطورت حوله اللغة العربية، كما أن القرآن أسترجع كثيرا من الألفاظ العربية القديمة التي هجرها عرب قريش ( وهذا موضوع آخر). طبعا هذا لا ينفي أن أسلوب الكتابة باللغة العربية تطور عبر العصور واستعارت هذه اللغة كثيرا من الألفاظ واستوعبتها. فالذي يقرأ نصوصا كُتبت في العصر الأموي يجدها تختلف في أسلوبها عن نصوص كتبت في عصر المماليك أو أسلوب بن خلدون أو أسلوب بن رشد وبن يتيمة وأبي حامد الغزالي..وهكذا…بعبارة أخرى وإذا استخدمنا لغة نظرية التطور لداروين فإن ما حدث للعربية هو تطور مجهري ( Microscopic evolution ) الذي لم يؤدي أبدا إلى تطور عيني ( Macroscopic evolution ) ، أي أن العربية بقيت العربية ولم تتحول إلى لغة أخرى مختلفة مثلما حصل مع لغات أخرى بحيث أصبح التخاطب بين من يتكلمون فروعها المتطورة عنها مستحيلا. وإذا استعملنا لغة البيولوجيا والتطور مرة أخرى فإن اللغات الأخرى تطورت إلى أنواع مختلفة أصبح التزاوج بينها مستحيلا بينما العربية تطورت في إطار نوع واحد حول الأصل .
لهذا فإن اللغة العربية ليست مجرد لغة يدافع عنها فئة من الجزائريين ( لا ندري كم حجمها) بحجة أنها موروث أو مجرد حامل لثقافة دينية معينة، بل لأنهم يرون فيها لغة أمة لها تاريخ ومصير مشتركان، والأهم أن لها اليوم وغدا مصيرا مشتركا من المشرق إلى المغرب. فالعربية هي اللغة التي تربط المشرق الإسلامي بالمغرب الإسلامي ، وليس لأن سكان المغرب هم عرب في مجملهم أو إنكارا لمركبات أثنية أخرى في هذه البلاد- طبعا إذا بقي لمفهوم الأثنية العرقية معنى في شمال أفريقيا أو غيرها. بعبارة أخرى، إن المدافعين عن العربية يرون فيها اللغة الوحيدة القادرة بأن تكون لغة موحدة للأمة الإسلامية بمشرقها ومغربها، أشبه باللغة الأنجليزية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. إن الجزائر ليست قطعة من الأرض معزولة في تاريخها وجغرافيتها عن باقي العالم الإسلامي والعربي، فهي نتاج انصهار أستمر لأربعة عشر قرنا. كما أن التاريخ أثبت ترابط مصير المشرق بالمغرب. فخضوع المشرق للاستعمار وانكساره تزامن من خضوع المشرق وانكساره وتفكيكه كان تباعا قطعة قطعة. ولن يمكن للجزائر أو أي دولة إسلامية-عربية أخرى أن تنهض وتسترد سيادتها بشكل حقيقي في معركة معزولة.
لهذا فإن كاتبي المقال هم من لا يرون في اللغة العربية إلا الجزء الثقافي منها ويهملون البعد الحضاري والنهضوي لهذه اللغة.
أما قولهم بأن اللغة العربية متكلمة بشكل سيء ويتم تعلمها بشكل رديء..وأنها من دون محتوى وجافة، فهذه مغالطة كبيرة أخرى. فإذا كان وضع اللغة العربية ضعيفا فليس بسبب من يدافعون عنها كما حاولوا تصويره، بل بسبب من ناصبوها العداء من اليوم الأول للاستقلال وقبله وفرضوا عليها حصارا خانقا. فعلى الرغم من محاولات إعادة العربية إلى مكانتها التي كانت تحتلها قبل الاستعمار الفرنسي إلا أن هذه المحاولات تم إفشالها إما جزئيا أو كليا ( إذا افترضنا أنها كانت محاولات جادة ومدروسة) . فلا أدري كيف يريد أصحاب المقال من التلاميذ والطلبة والشعب أن يجيدوا العربية ويقرؤوها بينما كل الإدارات لا تستعمل إلا الفرنسية، والجامعات محرم فيها استعمال العربية في جميع التخصصات العلمية تقريبا. فلا يعقل أن نضع شخصا في غرفة مساحتها واحد متر مربع ونغلق عليه الباب ونحصره بين أربع جدران ثم نلومه أنه لا يقطع مسافات طويلة وأن كساحا أصابه!!؟. ففي الجزائر اليوم والأمس كل مفاصل الإدارة والصناعة والاقتصاد وسوق العمل تسير باللغة الفرنسية، بل حتى فاتورة الكهرباء والهاتف وكشف الحساب في البريد يصلون المواطن باللغة الفرنسية. وحتى يتضح الأمر أكثر نأخذ مثلا مصطلح الهاتف الجوال والشريحة، فالذي يستورد ويُسوق ويسيطر على مفاصل الاقتصاد والاستيراد والتصدير والوثائق هو من يصدِّر المصطلح لعامة الناس. وهنا نجد أن حتى الشخص الأمي الذي لم يدخل المدرسة يطلق على الجوال ” بورتابل” والشريحة ” لابيس”، والسؤال هنا من هو المسئول عن إبعاد الناس عن اللغة العربية؟..أعتقد أنه من الحماقة والتجني أن نتهم حتى المدافعين المزيفين ( كما سماهم كاتبو المقال) بأنهم وراء هذا الضعف الذي تعاني منهم العربية. في الواقع مثال الجوال والشريحة هو مثال بسيط أخذناه لأنه نموذج حديث لا يمكن أن نقول أننا ورثناه عن المستعمر الفرنسي مثل بعض الألفاظ الأخرى، وهذا يوضح أننا لم نحصل على استقلالنا الثقافي واللغوي بعد. فلم يتم تزويد المجتمع بمصطلح عربي ولا أمازيغي بل تم محاصرته بمصطلحات فرنسية فرضت عليه فرضا ولا عجب أن يصطدم التلميذ في المدرسة بمصطلح آخر بالعربية بينما هو يعتقد أن كلمة “بورتابل” أو “أبيس” هي عربية أو شاوية أو قبائلية!.
إن التعريب في الجزائر أقرب إلى الأكذوبة أو العمل المشوه أو الذي أريد له أن يولد مشوها ، بل في الواقع جدار فصل عنصري، بينما واقع الأمر كل الإدارة الجزائرية والجامعات الجزائرية مفرنسة. لا يمكن للغة أن تزدهر وهي محاصرة . والغريب أننا وجدنا أصحاب المقال يدافعون عن المرحوم مصطفى لشرف و بن زاغو وهؤلاء لم يؤمنا يوما بقدرة اللغة العربية بأن تكون حاملا للحضارة والنهضة. بل إن جامعة باب الزوار كانت في عهد بن زاغو وربما إلى يومنا هذا تمنع أن يتم مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه بلغة غير اللغة الفرنسية، بل حتى الانجليزية مرفوضة.
ولهذا لا ندري كيف يريد أصحاب المقال من ناحية أن يقرأ التلاميذ نصوص ابن المقفع وأبو العلاء المعري…ومن ناحية أخرى تصلهم فاتورة الكهرباء والهاتف ورسائل شركات الهاتف الجوال ورسائل جميع الوزارات في هواتفهم بالفرنسية؟..بل حتى تهنئتهم بعيد الأضحى والفطر ورمضان وأول نوفمبر والاستقلال تصلهم رسائل بالفرنسية…؟!! وهنا ندعو أصحاب المقال الذين يقيم أغلبهم في فرنسا إلى تصور حال المجتمع والتلاميذ الفرنسيين لو كانت معظم الإدارات تخاطبهم بالانجليزية ومعظم لافتات المحلات في باريس والمدن الكبرى بالانجليزية ويتم بها تدريس الطب والعلوم والتكنولوجيا ، ورئيس وزرائهم ووزير تربيتهم لا يعرفون الفرنسية والأغلبية الساحقة من المسئولين الساميين والوزراء لا يستطيعون الحديث أو الكتابة بالفرنسية…فهل سيستطيع هؤلاء التلاميذ فهم أشعار فيكتور هيغو التي لم يمر عليها إلا قرنين ( وأغلبهم عن فعل ذلك اليوم عاجزين) ؟؟. أو لو فعلنا العكس مع البريطانيين والأمريكيين فهل سيستطيع أن يفهم تلاميذهم في مرحلة الباكلوريا أشعار شكسبير وهم عنها اليوم عاجزين؟؟ ..وندعو أصحاب المقال إلى قراءة ردود أفعال التلاميذ في فرنسا على نصوص فيكتور هيغو أو معرفة الصعوبات التي يواجهها تلاميذ بريطانيا في فهم نصوص شكسبير..فالأغلبية الساحقة منهم لا تستطيع فهم نصوص شكسبير إلا إذا استثنينا بعض تلاميذ مدارس النخبة . أما في أمريكا فالوضع أعقد بكثير.
أما قول أصحاب المقال بأن العربية من دون محتوى وفقيرة وجافة، فبصراحة لا ندري عن أي عربية يتحدثون وما هو المقصود بهذا الكلام…فاللغة العربية ليست لغة لفئة كبيرة من الجزائريين فقط، بل هي لغة متواجدة بغض النظر عن وجود الجزائر وسكانها جميعا ، وحتى لو اختفت الجزائر من الخريطة فإن العربية لن تتأثر. ربما كتاب المقال بحكم انقطاعهم عن اللغة العربية والتعامل معها وانغلاق أغلبهم في محيط فرانكفوني تماما يجعلهم لا يعرفون ماذا يقرأ أبناء الجزائر العميقة ولا مدى انتشار اللغة العربية ولا ما هي الكتب التي يطلعون عليها، وهذا بالرغم من الحصار والجدران والسجن الذي وُضِعت فيه اللغة العربية في الجزائر. وهنا نعذرهم فأغلبهم منقطعون تماما عن الواقع الجزائري وبعضهم منذ أزيد من أربع عقود. أعتقد أن مشكلة أصحاب المقال ومن يسلكون منهجهم أنهم لم يستوعبوا بعد أن الجزائر أكبر من ولاية أو أثنين أو ثلاثة في الشمال، وأنها ليست العاصمة وما جاورها، وأن الجزائر العميقة أكثر تعقيدا مما يتصورون وأن هناك جيلا أصبح يرى قضايا الجزائر ومشاكلها بمنظور حضاري أوسع يتعدى الحدود الوهمية والنفسية التي ورثتها الشعوب الإسلامية عن سايكس- بيكو والمستعمر.
أما القول بأن الثقافة العربية رديئة في الجزائر فهذا بالفعل صحيح، ولكن هل الثقافات الأخرى مزدهرة في الجزائر؟..هل لدينا ثقافة فرنسية مزدهرة؟ هل لدينا علوم تجريبية مزدهرة؟ هل لدينا رياضيات مزدهرة؟ هل لدينا فيزياء مزدهرة؟ هل لدينا رياضة مزدهرة أو فن أو سينما مزدهرة؟ ما هو الشيء المزدهر في الجزائر.؟؟..إن الرداءة في الجزائر شملت كل شيء بداية من السياسة إلى الإعلام بكل أنواعه إلى الجامعة إلى التربية وإلى الاقتصاد وسوق العمل وجميع مؤسسات الدولة إلى الفن والسينما ( ليس لدينا سينما أصلا). وهنا لا يمكن أن نحمل العربية أو التعريب هذه الرداءة، فكل الوزراء والمسئولون السامون اليوم لا يجيدون إلا الفرنسية لغة، بل إن رئيس الحكومة لا يستطيع أن يقول جملة واحدة صحيحة بالعربية، وكل أصحاب المال والأعمال والنفوذ الإعلامي والسياسي لا يتكلمون إلا الفرنسية ولا يستعملون إلا الفرنسية في معاملاتهم ..فمن يتحمل مسئولية الرداءة؟؟؟
لغة أهل الجنة والحروف الثامودية
أثار أصحاب المقال موضوع هل اللغة العربية لغة أهل الجنة وجعلوا منها قضية ذات أهمية وحاولوا تأصيلها من خلال الأحاديث ..إلخ. أولا أشير أنني تمنيت أن يربأ مثقف مثل أحمد جبار بنفسه عن استحضار قصة المعلمة صباح ويناقشها ويخوض في قضية لغة أهل الجنة. والسبب هنا بسيط ، فلا أحد ممن يدافعون عن اللغة العربية والانتماء الحضاري للجزائر يؤسس دفاعه على كون العربية لغة أهل الجنة . فهذا موضوع لا يستحق النقاش أصلا ولن يقدم ولن يؤخر. فكون اللغة العربية لغة أهل الجنة أو أهل النار أو كلاهما معا لن يقدم قيمة مضافة للحوار أو الجدل القائم. وعليه فإن كل ما جاء في المقال حول تأصيل حديث لغة أهل الجنة والحلال والحرام والمباح وغيرها من المصطلحات الشرعية والفقهية بعيد تماما عن صلب النقاش ومجرد سفسطة أو تكرار لكلام يعلمه تقريبا كل الناس. لأن الصراع الإيديولوجي واللغوي في الجزائر ليس وليد اليوم بل يعود إلى حقبة الأربعينات من القرن الماضي ولم يثر المدافعون عن اللغة العربية يوما قضية لغة أهل الجنة أو جعلوها حجة للدفاع عن العربية ولم تأخذ هذه القضية حظا من النقاش إلا بعد أن نشرت المعلمة صباح ذلك الفيديو .
أيضا أستحضر أصحاب المقال أيضا قصة الحروف الثامودية للرد على حجة قدسية العربية. فحسب رأيهم لو كانت العربية مقدسة لما نُقل إلينا القرآن بالحروف العربية التي تم اختراعها من طرف مجتمعات عربية مسيحية تعيش بين سوريا والأردن. بينما حسب رأيهم كان من المفترض أن يُنقل إلينا القرآن بالحروف الثامودية التي كانت متواجدة ومستعملة في الحقبة قبل الإسلامية في أرض الحجاز ( أرض الرسول صلى الله وعليه وسلم). هنا نجد أنفسنا فعلا في حالة من الاستغراب والدهشة للكيفية التي يتم فيها استعمال المعلومات التاريخية وتوظيفها في غير محلها تماما وبعيدا عن دلالتها وأيضا بشكل مخادع. فالذي يقرأ نص أصحاب المقال يُخيل إليه أن عرب قريش كانوا يستعملون الحروف الثامودية في كتاباتهم أثناء بعثة الرسول وأنهم فقط قرروا استعمال الحروف العربية التي تم اختراعها بين سوريا والأردن من طرف عرب مسيحيين، وهذا أمر منافي للحقيقة. فعندما دوّن عرب قريش القرآن دونوه بالحروف والأبجدية التي كانوا يستعملونها حينها ولم يكن لمسألة من أخترع هذه الحروف قيمة أو معنى ، فهي حروف عربية في نهاية المطاف مثلها مثل الثامودية التي تسنب لقوم ثمود ( عرب بائدة) و التي تثبت النقوش أنها انتشرت في أرض الحجاز واليمن إلى سينا ومصر. ولكن هل يعني هذا أن هذه الحروف الثامودية التي تعود بعض نقوشها إلى آلاف السنين قبل الميلاد كانت مستعملة أثناء البعثة؟ إننا لسنا مختصين في تاريخ الحروف والكتابات والحضارات الإنسانية ولا في دراسة النقوش ولكن حتى لو افترضنا أنها كانت مستعملة أثناء البعثة المحمدية فهل كان قوم ثمود الذين تنسب إليهم هذه الكتابة مسلمين حتى تضفي حروفهم أي قدسية على العربية؟ أو ليسوا هؤلاء هم قوم ثمود الذين قال فيهم المولى عز وجل ” فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين”؟
في الحقيقة لسنا هنا لندافع عن قدسية اللغة العربية أو نخوض في هذا الأمر الذي لا معنى له، ولكن إذا كان أصحاب المقال يعتقدون أنهم باستحضار هذه القصة يردون عن عدم قدسية العربية فإنهم أخطئوا الحجة والهدف وعليهم مراجعة منطقهم. فلا أهل ثمود كانوا مسلمين ولا عرب قريش كانوا مسلمين ولا غيرهم من العرب…لهذا فإن استحضار قصة الحروف الثامودية أمر تافه ولا قيمة حجية له ، لا لهذا الطرف ولا لذاك.