"رؤية عملية لتجديد مقاصد الشريعة" تلخيص من كتاب "سؤال المنهج" للدكتور طه عبد الرحمن.
بقلم أ.جمال الدين بوشيبة
ملاحظة: ما بين المعقوفين “[]” هو من إضافة الملخّص، وأن التلخيص الشديد رهين بثلاثة: بطريقة الملخّص أوّلاً، وبثقافته ثانياً، وبثقافة القارئ ثالثاً. وبذلك سيبدو النّص بعد الاختصار كأنه من المتون المعقَّدة على غير ذي الاختصاص. وسيتوزع هذا الاختصار على حلقات -إن شاء الله-، هذه أولها:
يجعل الأصوليون مبحث المقاصد قسماً من علم أصول الفقه أقلّ من قسم الأحكام. وكان ينبغي عليهم ألاّ تقل عنايتهم بالمقاصد عن عنايتهم بالأحكام؛ لأنهم هم أنفسهم يقررون أنّ لكلّ حكم شرعي مقصداً شرعياً.
ـ وإن هدف هذا البحث هو محاولة تجديد علم المقاصد من خلال أربعة نقاط:
الأولى: أن علم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي.
الثانية: أن علم الأخلاق الإسلامي تشكله نظريات مقاصدية ثلاثة متمايزة ومتكاملة فيما بينها، هي: “نظرية القيم”، و”نظرية النيات”، و”نظرية الأفعال”.
الثالثة: أن بعض هذه النظريات يحتاج إلى وجوه من التصحيح والتقويم.
الرابعة: أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون جانبها الأخلاقي مؤسِّسا للجانب الفقهي ويكون جانبها الفقهي موجِّها للجانب الأخلاقي.
الدعوى الأولى: علاقة علم المقاصد بالأخلاق الإسلامية…
قبل ذلك لابد من بيان علاقة علم المقاصد بالأخلاق الإسلامية في نقاط:
– باطل كلِّـيّاً ما شاع من قديم من أنّ الأخلاق أفعال محدودة تعبر عن جانب من سلوك الإنسان، وأنها لا تدخل في محددات ماهيته أو هويته بتعبير المتأخرين.
– وبيان بطلانه أنه ما من فِعلٍ إنساني واعٍ ولو كان ذهنيّاً ـ إلا يقترن بقيمة خلُقية، ترفعه إن كانت عُليا (تُريد جلبَ خير أو دَفعَ شرّ)، فتزداد إنسانيتُه، وتخفِضه إن كانت دَنِيّةً (تُريد جلبَ شرٍّ أو دفعَ خيرٍ)، فتنقُص إنسانيتُه.
– ومِما يبطله أيضا أنّ ما يفصل الإنسان عن البهيمة هو قوة الخلُق لا العقل كما هو راسخ في الأذهان، فقد يوجد عقل ولا خلُقَ معه لا حسَنا ولا قَبيحا، كما هو في البهيمة ولو كانت هي في العقل أقل من الإنسان؛ ذلك أنّ العقل والغريزة متداخلان، سواء قلنا: إنّ الأفعال العقلية في البهيمة غريزة، أو إن العقل كله في الإنسان غريزة.
– فيتحصل أن علم مقاصد الشريعة هو جزء من الأخلاق الإسلامية.
علاقة علم المقاصد بموضوع الصلاح
– يستعمل المؤلف”المفهوم” بالمعنى المستحدث الذي يعني”المدلول”، ويقابله “اللفظ”، لا بالمعنى الأصولي الذي مقابله المنطوق).
– لا يتحدّد علم المقاصد تحديدا مفهومياً، بتعريفه بكونه العلم الذي يبحث في مقاصد الشريعة؛ فسيبقى بذلك مجرّد تفصيل لفظيٍّ للمعرَّف.
– ولا يتحدّد مفهوميا، بتعريفه بكونه العلم الذي ينظر في المصالح التي بنيت عليها الشريعة، وإن زاد المعرِّف بياناً على المعرَّف؛ لأنه يبقى معلقا ببيان مفهوم “المصلحة” الذي فيه لبس كثير ناشئ عن شيئين:
أولهما: صيغته الصّرفيّة المفيدة إما التحيّزَ المكانيَّ (اسم مكان)، كما يوهمه قولهم: “جلب المصلحة” أو “رعاية المصلحة”. [وإما التأقُّتَ الزمانيَّ (اسم زمان) باعتبار الصيغة مفيدةً له كذلك. ولكن قد يرد على كلام المؤلف أن “المصلحة” يمكن أن تكون بمعنى المصدَر المِيمِيّ الدال على ما يعنيه اسم المعنى مجرّداً عن الزمان والمكان. وهو ظاهر مراد الأصوليين].
وثانيهما: توسع مدلوله مع المتأخرين ليرادف الغرَض، فيقال: “تحقيق المصلحة العامة” أو: “طلب المصلحة الخاصة” [ويرد عليه أنه استعمال خارج مجال التداول الأصولي].
– والمصلَحة اسم معنىً مجرَّد عن التحيُّز أو التأقُّت؛ لأنها مرادِفة لمفهوم “الصلاح” بالمعنى المصدري؛ فنظَر المقاصد في المصالح الدنيويّة أو الأخرويّة معناه النّظر في وجوه صلاح الإنسان دُنيويّاً أو أُخرويّاً. وليست غرَضا، بل هي مَسْلك، فالنّظر في المصالح يعني: النّظر في المسالك التي بها يصلح الإنسان تحقيقا لصفة العبودية لله. [ويرد على لفظ “المسلك” ما أورده هو على لفظ “المصلحة” من قبلُ؛ إلاّ إذا تأولنا كلامه هنا أنّه بمفهوم المصدر الميميّ المجرّد الذي ذكرناه سابقاً لمفهوم “المصلحة”].
– إذن التعريف الوافي بحقيقة علم المقاصد هو: “علم الإصلاح”؛ فهو جواب عن: “كيف يكون الإنسان صالحا؟” أو: “كيف يأتي الإنسان عملاً صالحا؟”.
– الصلاح قيمةٌ خلقيّة تشمل سائرَ القيَم الخلُقية؛ فهو موضوع علم الأخلاق.
– “الخير” و”السعادة” لا يرادفان مفهوم الصلاح الذي يعتبر اسمَ معنى مجرَّدا عن الأغراضِ ويقترِن أساساً بالسلوك، بينما قد لا يقترن الخير به (فقد يطلق على اسم ذات مثل: “المال الكثير” أو “النعمة”)، وتقترن السعادة بالأغراض أساساً. [وقد يرد عليه أن “الخير” قد يكون بمعنى الاسم لا المصدر، وقد لا يُسلَّم اقتران السعادة بالأغراض دائما وفي كل الفلسفات، ولا خُلوُّ الإصلاح من الأغراض بالمطلق].
– علم المقاصد أحق بالاندراج في علم الفلسفة الإسلامية وتدريسه فيها؛ لأصالته فيها، وتميزه عن مباحث كثيرة دخيلة ليست سوى ثمرة للتفاعل مع الفلسفتين اليونانية القديمة والغربية الحديثة.
يتبع