انتخابات وشجون- عبدالعزيز كحيل

بعد نشر مقالي ” ويسألونك عن الانتخابات المقبلة ” طلب مني كثير من الإخوة وألحّوا في الطلب أن أكتب بالتفصيل عن الحلّ الذي أشرت إليه في آخر ذلك المقال ، وأحب ان أسجل ابتداء إعجابي بأولئك الشباب الذين يحملون همّ البلاد ويتألمون لواقعها ويتلمّسوا الطريق والأسباب الموصلة إلى الإصلاح والتغيير ، فهذا مؤشر إيجابي ، لكني أخشى عليهم أن يطيش بهم في أودية المحاولات التي أثبتت فشلها منذ الاستقلال فيستثمروا أوقاتهم وجهدهم في تنفيذ أجندات يتوهّمون أن فيها نفعا للجزائر بينما أثبتت التجارب أكثر من مرة أنها لا تصبّ إلا في صالح مشروعات ايديولوجية وسياسية تُثقل كاهل المجتمع ولا تحلّ أيا من مشكلاته ، هم متعطشون للتحرك لكننا تعلمنا من الفيزياء أن الحركة لا تكون بالضرورة إيجابية ، فالمراوحة في نفس المكان حركة ، والسير إلى الخلف حركة أيضا ، وهذا ما يطبقه أصحاب استراتيجية توجيه الشعوب – والشباب خاصة – فيرفعون أمامهم منديلا أحمر يسعون خلفه يظنون عن حسن نية أنهم سيحققون مكاسب معينة للصالح العام في حين هو يستنفد قواهم ويصرفهم عن أولويات أخرى وأعمال أكثر مردودية.
لا أريد ان أستطرد في هذه التحاليل بل أتركها للمختصين أما أنا فأكرّر أني مع العمل السياسي لكني لست مع الدوران في حلقة مفرغة حبَكَتها أيدٍ خفية ، نعم ، يجوز أن أُخطِأ أنا وهذا الحزب أو ذاك والشعب مرة ومرات ، لكن هل من الحصافة أن نبقى منخدعين طول الوقت ؟ أن نصدق ما أكدت التجارب المتكررة أنه زيف مبرمج أو هو – بالتعبير القرآني الناصع – ” كسراب بقيعة يحسب الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ” … يقولون لي : ما دام البديل غير موجود لا مناص من الانخراط مرة أخرى في العملية الانتخابية ، وهذا المنطق هو عين ما أثور عليه لأنه منطق الحتمية التي خلقها النظام القائم ، وأنا أدعو ليس إلى المشاركة أو المقاطعة ولكن إلى تجاوز هذه الحتمية والخروج من السجن الذي يتوهّم بعضنا أنهم أحرار داخل أسواره ، ومن المضحكات أن يراهن بعض المخلصين على مشاركة مكثفة تمكّنهم من ترأس مجالس بلدية وكأنهم يجهلون أن رئيس البلدية في الأوضاع الحالية مهما كانت كفاءته ونزاهته هو ومن معه إلا أنه مجرد موظف بسيط لدى رئيس الدائرة ، كما أن رئيس المجلس الولائي موظف لدى الوالي ، هذه هي الحقيقة إذا تجاوزنا بروتوكولات تُوهِم هؤلاء المنتخَبين أن لهم شأنا ، وقد اطلع العارفون على أحوال وزراء ” المعارضة ” أيام زمان فألفوهم مجرد أرقام هزيلة في ديكور ديمقراطي ظاهر الزيف ، أكرّر مرة أخرى أن هذه هي حقيقة العمل السياسي في حياتنا ، وهي حقيقة يعرفها الجميع لكن بعض ” الطيبين ” لا يبغون عنها حِولا لأنهم – إذا أحسنّا الظن – لا يريدون المغامرة بتجاوز الأسلاك التي ألِفوها حتى أثرت في تفكيرهم ونفسيتهم ، وهذه هي المشكلة التي طال حولها الخلاف ، فأنا أدعو إلى التحرّر وإنتاج تفكير جديد وثقافة سياسية جديدة من خلال عمل مجتمعي واع مكثف ، أما أولئك ” الطيبون ” فما زالوا يردّدون مفردات شغل أيّ حيّز من السلطة ، كأنهم يجهلون أن ذلك أقرب إلى لعب الأطفال الذين يحسبون أنفسهم – في ألعابهم – أبطالا كما تعلموا من الأفلام والقصص ، إنهم يعلمون أن الدولة تُدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة ، والعمل لتصحيح الوضع لا يكون بالانخراط في ديناميكية تلك النخبة وإنما بمفارقتها والتفرّغ لوضع وتنفيذ خطة طويلة المدى يشرف عليها علماء في السياسة والشريعة والاجتماع والعلاقات العامة والإعلام ونحو ذلك للبدء من نقطة الانطلاق الجدية وهي ذات محوريْن : الأول هو وضع قواعد وضوابط حياة سياسية ديمقراطية بعيدة عن الزيف والتضليل ، أما الثاني فهو وضع مشروع المجتمع الذي يتهرب الحكام من وضعه منذ الاستقلال ويكتفون بالاختيارات الفوقية .
أعلم أن هذا الاقتراح لا يستهوي مناضلي العمل الحزبي – وأنا أحترمهم – ولا المتعجلين ، وسبب ذلك أنه ليس كلام رجل سياسة وإنما هو صادر من رجل دعوة تعلّم من سنن الله في خلقه الاستعلاءَ الايماني على الواقع المنحرف و تجاوز حجاب المعاصرة لاستشراف المستقبل بروية ودم بارد في إطار رؤية مقاصدية مكتملة الأركان ، الطريق سيكون طويلا من غير شكّ لكنه أفضلُ من الترقيعات التي لا طائل من ورائها وأحسنُ من العمل السياسي الحالي الأقرب إلى العبث.
البلاد في حاجة إلى جميع أبنائها المخلصين ذوي الكفاءة – وما أكثرهم – لكنهم لن يفعلوا شيئا ذا بال إلا إذا تحرّروا من الضغط الفكري والنفسي الذي مارسه النظام على الشعب منذ الاستقلال حتى أصبح طبيعة ثانية عند أكثر الناس لا يريدون عنه حِوَلا ، وهذا أكبر عائق أمام إرادة التغيير الذي نريده جذريا في منتهاه ومتدرّجا في مساره حتى نؤسس حياة سياسية جديدة على قواعد اجتماعية ودستورية وقانونية صلبة لا تقتصر على الانتخابات الدورية ولكن محورها الانسان – المواطن المتشبع بقيم الحرية والشورى والمساهمة في الحياة العامة وفق آليات أثبتت جدواها في الدول المتقدمة .
يبدو لي أن على العقلاء والمخلصين أن يركزوا جهودهم على بلورة هذا المشروع التحرري المستقبلي ، فذلك أجدى من لعبة المشاركة والمقاطعة التي نفض الشعب – في أغلبيته – يديه منها منذ زمن بعيد ، لكن محترفي السياسة لا يبالون بذلك ، وأنا أعذر أصحاب النيات الحسنة لكني أنبّههم إلى ان الخيط الفاصل بين حسن النية والغباء رقيق جدا.
أجل ، ستجري انتخابات على أكثر من مستوى وستكون بطبيعة الحال حرة نزيهة شفافة ، وستلتزم الادارة الحياد كالعادة ، وستعلن النتائج ولن تحمل أي مفاجآت ، وستملأ ” المعارضة ” الدنيا احتجاجات على التزوير ، وستنكر ” الأغلبية ” حدوث ذلك مستندة إلى شهود لم يروا شيئا – على رأسهم وفد الجامعة العربية – وستعود الحياة السياسية إلى طبيعتها أي إلى الصالونات ، وكل هذا سيشرح صدور أطراف ويُحزن أخرى لكنه لن يفيد المجتمع بأي شكل.
عبد العزيز كحيل