موقف الرجال من عمل المرأة ضرورة الخروج من الضبابية إلى الوضوح
إن موقف الرجال من عمل المرأة ينظر فيه من وجهين:
الوجه الأول: والنظر فيه لذات العمل من حيث جوازه شرعا, وعدم جوازه.
الوجه الثاني: والنظر فيه لثمرة العمل أي المردود المادي العائد من عمل المرأة لمن يكون وما نصيب الرجل فيه الذي أذن به وتنازل عن بعض حقه في الإذن بالخروج للعمل والقول في هذا الوجه يحتاج إلى تفصيل كبير ودقيق يطول شرحه وليس هذا مقامه.
أما الوجه الأول الذي سبقت الإشارة إليه: فهو موضوع السؤال ومدار البحث والنزال بين أهل العلم في بيان أصح الأقوال في عمل مربية الأجيال, فمنهم من يرى المنع مطلقا على أي وجه وحال, ومنهم من يرى جواز ذلك بقيود وضوابط وشروط.
ومحل النزاع هو في تفسير قوله تعالى في سورة الأحزاب: ” وَقَرْنَ فِي بِيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الْصَّلَوةَ وَآتِينَ الْزَّكوةَ وأَطِعْنَ الْلَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اْللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ اْلرِّجْسَ أَهَلْ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً ”
يقول أصحاب المنع مطلقا أن معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب فيه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل فيه غيرهن بالمعنى هذا لولم يرد دليل يخص جميع النساء, كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا للضرورة, فأمر الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن وخطابهن بذلك تشريف لهن.
ويرى أصحاب جواز الخروج للعمل بقيود وضوابط وشروط أن الأمر بالقرار في البيوت وعدم الخروج إلا للضرورة الوارد في الآية خاص بمن وجه إليه الخطاب وهم نساء النبي عليه الصلاة والسلام ولا يشمل جميع نساء المسلمين.
ولكن الجواز الذي قال به أصحاب هذا الرأي قيدوه بجملة من الشروط يمكن تلخيصها فيما يأتي:
1 – ألا يتعارض عملها خارج البيت مع وظيفتها الأساسية التي خلقت من أجلها.
2 – أن يكون عملها بإذن زوجها إذا كانت متزوجة أو بإذن وليها إذا كانت غير ذلك.
3 – أن يكون العمل ضمن الدائرة التي تتفق مع تكوينها الجسماني وفطرتها مثل الأعمال النسوية من تطبيب وتدريس وتمريض ومجالات البحث العلمي المتعلقة بذلك وغيرها.
4 – أن تلتزم حدود الآداب الشرعية، والمنح المرعية، والسلوكات الأنثوية، وما فرضه الله عليها من حجاب وما حرمه من اختلاط والخروج بزينة وإبدائها للغير.
وتحرير القول في محل النزاع وهو أن الأمر الوارد بالقرار في البيوت الموجه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم, يتناول أمهات المؤمنين بالوجوب, ويتناول غيرهن من نساء المسلمين بصيغة الكمال.
وصيغة الكمال في هذا المقام كصيغة الإحسان في مقام تزكية النفس، كما أنه ليس من الشرع ولا من الممكن حمل كل الناس على مقام الإحسان، فكذلك الأمر في حمل النساء على مقام الكمال، فالمسألة متعلقة باختلاف مقامات وأحوال، ومن تفاصيل ذلك المقام حرم عليهن مالم يحرم على نساء المسلمين، بحكم الاختصاص بالبيت النبوي.
فقرارهن في بيوتهن عبادة وهو أمر خصصن به توقيرا لهن وتقوية لحرمتهن حيث يقول العلامة ابن عاشور في تفسير هذا الأمر: (هذا أمر خصّصن به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرا لهن. وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة. وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الموطأ. وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء.
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجهن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله أذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن” يريد حاجات الإنسان.
ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين. وقد خرجت عائشة إلى بيت أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها “وإنما هو اليوم مال وارث” رواه في الموطأ. وكن يخرجن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحضر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك. وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله (وقرن في بيوتكن)، ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يمرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه. رواه في الموطأ).
والذي يزيد الأمر وضوحا فيما ذهبنا إليه, هو أن الله تعالى لما أراد فرض الحجاب على جميع نساء المسلمين دون استثناء لطائفة معينة وجه الأمر لنبيه عليه الصلاة والسلام بأن يأمر الجميع بالحجاب, حيث قال تعالى: ” يأيها النَّبِيُ قُلْ لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ ونِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهنَّ مِن جِلابِيبِهنَّ ذلك أَدْنَى أَن يُّعْرَفْنَ فَلاَ يُؤَْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيمًا”
فتخصيص نساء النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب القرار في البيوت, أمر ينبجس من معنى أفضليتهن على سائر نساء المسلمين المنصوص عليها في قوله تعالى: ” يَا نِسَاءَ الْنَبيِ لَسْتُنَ كَأَحَدٍ مِّنَ الْنِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ “، وهي الآية التي تسبق آية القرار في البيوت مباشرة.
ولأفضليتهن معاني أخرى كثيرة حيث يقول ابن عاشور في تفسيره: ( ونفي المشابهة هنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهّن مثل نفي المساواة في قوله تعالى ” لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله “، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة “غير أولي الضرر” وجود ولا لسبب نزولها داع. فالمعنى: أنتنّ أفضل النساء، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبي عليه الصلاة والسّلام اتصالا قريبا من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع مالم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبال خاص، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم “حبّب إليكم من دنياكم النساء والطيب”، وقال تعالى (والطيِّبات للطيِّبين). ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن.
والله الموفق لما فيه الخر والصواب