ابن باديس…ذلك المجهول!! 2/1 حسن خليفة
قد يبدو هذا العنوان غريبا ومجانبا للصواب لدى البعض، ممّن يرون أن شخصية فذّة كالعلاّمة عبد الحميد بن باديس شخصية معروفة مشهورة بقدر واسع، لدى قطاعات عريضة من الناس في بلدنا، كما في بلدان أخرى. والواقع أن ذلك ليس سوى جزء من الحقيقة، فالمراد بكونه “مجهولا” هو غياب معرفة تفاصيل كثيرة مميزة مستترة من حياته وسلوكه وجهوده وتعلّمه وتفوّقه، ثم -بعد ذلك وهو الأهم – غياب معرفة حقيقية بملامح منهجه (ومنهج الجمعية عموما) في المجالات: الدعوية-الإيمانية- الإصلاحية، التربوية، الإعلامية_ الصحفية، الإنسانية.. والاعتبار بذلك، والاهتمام بإبرازه وبيانه للناس، عسى أن يضيف ذلك ملامح “تميّز” واقتدار لتطعيم مناهج العمل والدعوة والإصلاح في واقع الناس اليوم في بلدنا هذا وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى يمكن أن تستفيد من فكر ابن باديس ودعوته وعمله الإصلاحي، كما استفادت بلدان إسلامية أخرى من فكر مالك بن نبي.
إذن ليس المطلوب أن تُعرف تلك التفاصيل لذاتها، ولكن للتأسّي بها والاشتغال عليها وترسيخها وتوضيحها والتقاطها من منهجه الدعوي العَملي الذي لا شك في أنه منهج متفرّد، ضمن مناهج الدعوة والإصلاح في العالمين العربي والإسلامي كليهما، شرقا وغربا، وليست هذه “شوفينية” ولا “نرجسية وطنية ” ولكنها إقرارات متحققة ثابتة، وخلاصات كثير من الدارسين الصادقين الذين محّصوا المناهج الإصلاحية والدعوية في عموم العالمين العربي والإسلامي، ووجدوا لدى ابن باديس “خصوصيات” وتفرّدا اصطبغت به حياته ودعوته، كما اصطبغ به عمله ومنجزَه الكبير في الاستنهاض الحضاري للمجتمع الجزائري، بعد أن كاد “يموت”، من خلال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
إنّ المنهج الدعوي لابن باديس ولجمعية العلماء هو الذي -بتيسير الله تعالى وحُسن عونه – حافظ على كيان مجتمعنا الجزائري العربي الإسلامي، وهو الذي مكّن للدين كمنهج رباني شامل أن “يعيش” ويحيا وينبسط؛ رغم كل تلك الظروف الخاصة والاستثنائية، ورغم ضراوة الاستدمار الظالم البغيض، وحربه الشاملة العنيفة ضد كل ما له صلة بهُوية شعبنا التي حاربها الوحش الاستدماري وعمل على استئصالها -وما يزال إلى اليوم – …ولكن توفيق الله تعالى، ثم ذلك المنهج المتمرّس، المحكم، الهادئ، الصّبور، المنفتح على الواقع، الصائب، الدائب، على ضعف الإمكانات لدى عموم الشعب، وقلّة الحيلة لدى تلك الطائفة المتلألئة من العلماء والشيوخ..أنتج ما أنتج، وقدم ما قدم من خير وفضل لمجتمعنا، وها هو قائم مسترشد يكافح من أجل الإيمان والإسلام والعربية والوطن، بحمد الله تعالى.
إن الأجيال الحاضرة، بما فيها الكثير من الباحثين والباحثات والدكاترة والأساتذة، لا يكادون يعرفون غير النزر اليسير من حياته وأعماله، فضلا عن معرفة بمنهجية العمل في الدعوة إلى الله تعالى والصلاح والإصلاح الذي اعتمده على بصيرة ووعي وفهم وفراسة واستشراف جميل رائع للمستقبل، مع قوة يقين في الله تعالى، لا يلابسها شك ولا تطامنها ريبة.
وأما الأجيال الصغرى فحرمانها من معرفة عظمائها أكبر، ولعلها مبرمجة، حيث تكتفي ببحوث تأخذها -بطلب من الأساتذة – من مقاهي الانترنيت جاهزة باردة لا روح فيها، ولا يُكلف الأساتذة أنفسهم حتى بطلب إعداد بحوث مبتكرة مختصرة، بغرض استفادة التلاميذ منها على وجه ما. وأما البقية، ونحن منهم، فلا تعرف -للأسف – إلا الرسم (الصورة) ونبذة يسيرة موجزة عن حياته، وهي على قصرها مليئة زاخرة بأعمال جليلة عظيمة، ذهب أكثرها واندثر، مثل تفسيره..”مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير” وهو عبارة عن حلقات في تفسير القرآن الكريم كان ينشرها الشيخ ابن باديس في مجلة الشهاب. ثم جمعت بعده ونشرت واشتهرت بتفسير ابن باديس قام عليها الدكتور عمار طالبي -حفظه الله- وآخر طبعة لها ظهرت في بيروت عن دار الوعي .ونحن نعلم أن الشيخ -رحمه الله- جلس قريبا من ثلاثين عاما مفسّرا لكتاب الله تعالى بطريقة وظيفية ـ عَملية هادفة ماتعة .ولم يصل من جهود تلك السنين الطويلة سوى حلقات نُشرت في “الشهاب” .ولو سألنا عن السبب لوجدناه نفس السبب الذي نمارسه نحن اليوم إزاءه -بالتجاهل والإهمال – وعدم التعمق في بحث طريقته في الدعوة والإصلاح والتغيير والبناء. إنه قلة الاهتمام ونفور من الكتابة التدوين، وهذه مصيبة جزائرية خالصة، أعني البعد عن التوثيق والجرد والتدوين، سواء بالكتابة أو التصوير وإلاّ فهل أرخنا لثورتنا – مثلا – بما يجب من الوثائق والمستندات وحققنا المطلوب من هذه الناحية، ونحن نرى بلدانا لم تعرف عُشر ما عرفته الجزائر ولكنها وثّقت لما حدث بكل الأشكال والصيغ: الكتب، الأسانيد، الأرشيف، الأفلام، المسلسلات، الأفلام التسجيلية الخ..ألخ. لقد اندثر تفسير نادر لسبب بسيط أن التلاميذ والطلاب المحيطين به لم يدوّنوا ما كان يمليه ويشرحه ويلقيه من لطائف وآراء وحكمة في تفسير كلام الله تعالى ..
مازلت أكرّر، وسأعيد الكلام في هذا الشأن، وفي شأن جهلنا بابن باديس الرجل الفذ الذي كُتب عنه ما كُتب، وهو على كثرته الظاهرة قليل، فمازلنا -كجزائريين ومسلمين – …مازلنا لم نعرفه كما يجب ولا زلنا نجهل الكثير من مكامن القوة والقدرة والإيجابية والفعالية في حياته، وأكثر من ذلك جهلنا بمنهج العمل في إقامة موازين الدعوة والإصلاح وبسط سلطان الدين والإيمان في النفوس، وإيقاظ الأرواح الباهتة بالتربية والتزكية والتحفيز.
يتبع