فتنة الفِرق والافتراق (1) بقلم الشيخ محمد مكركب
بدأت أوصافا وتعريفات ثم أصبحت أصنافا وجماعات ثم صار أغلبها بدعا ومنكرات، قاد أئمتُها وزعماؤُها أتباعَهم إلى فتن وموبقات. فقد حدثنا المؤرخون أنه خرجت جماعة على الإمام علي رضي الله عنه (في حادثة التحكيم) فسموهم الخوارج ثم أصبح لهم كيان وخصائص ومواصفات، فأحدثوا شرخا بليغا في صفوف الأمة، ثم بالغوا في الخروج الفكري والمذهبي حتى خرج كثير منهم على الأمة، وتفرعت منهم فروع، فمنهم من تاب واتبع الصواب، ومنهم من زاغ وخاب. وتشيعت جماعة لعلي كرم الله وجهه حتى كاد بعضهم يؤلهونه فسموا الشيعة، وأسسوا لأنفسهم مذهبا مخالفا لأصول الدين، وقد طعنوا في السنة والصحابة والتابعين، وافتروا على القرآن فأولوه بأهوائهم، فمنهم من تشيع بالعاطفة والسذاجة، وانحرف عن طريق الرشاد والهداية، ومنهم من زعم الإسلام تقية، ولكن ليس مع المسلمين حقيقة؟. ومنهم من ادعوا لأنفسهم الصفاء والارتقاء، وتصوفوا فسموا الصوفية، وجعلوا للصوفية مذهبا رتبه شيوخُهُم في أعلى درجات أولياء الله تعالى بزعمهم، ووضعه المعارضون في أحط دركات الزندقة والفسوق بنقدهم. ثم ظهرت مع ظلام التخلف في قرون استدمار الغرب للشرق، ووقوع أغلب الشعوب العربية تحت نظام احتلال الكفار، ظهرت فرق عجيبة التوجه مسكينة تبرز نفسها بعناد حادٍّ وعنصرية شديدة التمسك بطقوس لا معنى لها، ولكنها لا تعرف لنفسها أصلا ولا هدفا، ومن ورائها منظمات يهودية ونصرانية ومجوسية، وهم لا يشعرون.
ثم توالت الانشقاقات والتسميات حتى مُلئت الساحة العالمية، بالفرق الطائفية، وصحبتها كثير من الأفكار الجاهلية. هذه الفرق المحدثة تطورت فِتَنُهَا، وخاض فيها المجادلون، الذين يَحْلُو لهم أن يملئوا حياة الناس بالشبهات والمتشابهات، والأراجيف والمغالطات. لقد أخبرنا الله تعالى عن بعض أهل الكتاب الذين اختلفوا وتفرقوا، ونهانا أن نكون مثلهم، كما أن المشركين فَرَّقُوا دينهم وكانوا شيعا، ونهانا الله تعالى أن نكون مثلهم. قال الله جل جلاله:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم:30/32).
ولم يتوقف الأمرُ على بدع الفرق الضالة من ملحدين، ومجوس، ووثنيين، ومن عبدة النار والمنافقين، بل انتقل المرض الطائفي والمذهبي إلى المسلمين، وأقول في البداية: إنه من حيث المذاهب الفقهية، ليس العيب في المدارس الفقهية التي سموها (المذاهب) خطأ، وغلطا، وإنما المصيبة في تعصب أتباعها، وكلامنا هنا ليس على المذاهب الفقهية، وإنما على الفرق، والجماعات، وما أحدثوه من المصطلحات، التي سمت بها كل جماعة نفسها، ما أنزل الله بها من سلطان.
حيث إن الأصل في المصطلح أنه اللفظ الدال على مفهوم اتفق أهل تلك اللغة الملفوظ بها على أنه تعريف وتمييز لمدلول علمي، أو لمدلول شرعي من الكتاب أو السنة، أو لمدلول عرفي يتعامل به الجميع، وله خصائص متعارف عليها، بالعلم والشرع، كمصطلح: السنة، والقرآن، والمسلمين، والكافرين، والمشركين، والدين، والدنيا، والآخرة، والأخوة، والجماعة، وغير ذلك. لكن تسمية الفرق بمصطلحات متشابهات كانت فتنة أغرقت كثيرا من المسلمين في متاهات مظلمة، وأكثرها فتنة هي المتعلقة بـ: (التدين التطرفي) أو ( الفكر الإباحي)، أو (التزعم الدعوي الأناني) وهم على أطراف متناقضة، أهل الإفراط من جهة، وأهل التفريط من جهة أخرى، وأهل الزعم بأنهم وحدهم أصحاب الدين من جهة ثالثة.
1 ـ الأصل أن الناس فريقان أهل الحق وأهل الباطل:
المفروض أن الذي اتفق عليه العقلاء من المسلمين هو أن الناس صنفان أهل الحق، وهم أصحاب الجنة، وأهل الباطل وهم أصحاب النار. والله تعالى يقول:﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ﴾.
والله أمر الرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ليحق الله الحق ويبطل الباطل. ففي التاريخ الصادق، أنه لما كَمُلَ الدينُ، والتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ترك الأمة الإسلامية على الدين الإسلامي الذي شرعه الله للعالمين، وترك الصحابة على مصطلحات شرعية يتعارفون بها، ويتعاملون بموجب مدلولها، وهي مصطلحات في القرآن، والسنة، بما هو مقرر في مضامينهما. فَعَلِمُوا أن الدين الحق واحد هو الإسلام، وأن الذين ينتمون إلى الدين الحق كلهم يسمون المسلمين أينما كانوا، وأن غير الدين الحق هو الباطل، وأن الذين ينتمون إلى الباطل يسمون الكافرين.يقول الله تعالى:﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (سورة محمد).
ثم بعد مدة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بدأت الفتن الفكرية والطوائف المذهبية، والمصائب السياسية، وبدأت تبرز على ألسنة الناس مصطلحات فرق محدثة، وبدأ الناس يُحْدِثون أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فكل جماعة ترغب في التميز عن الأمة تحدث مصطلحا جديدا تسمي به نفسها، وتُرَتِّبُ له خصائص وهمية، وتتعصب له، وتعارض به باقي المسلمين، بدأ ذلك بمرض الخوارج، منذ فسوق زعمائهم الأولين بالخروج على خليفة المسلمين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه، ونتيجة لرد الفعل النفسي المضاد، برزت فرق أخرى.
ولم يكتف أهل السذاجة في هذا الزمان بالانتماءات الطائفية الجهوية، والمذهبية الفكرية والفقهية، فزادوا هَمًّا آخر للأمة الإسلامية وهو: الحزبية السياسية، والحزبية خطأ، لأنه شق لصفوف الأمة، ومثار عداوة. إنها فتن كقطع الليل المظلم، التي لا ينجو منها إلا من لاذ بالخالق جل جلاله واعتصم به، واستمسك بالقرآن والسنة، ودعا إليهما.
وبدأت تنتشر شبهات الفرق المبتدعة، والأحاديث الموضوعة، منذ الفتنة الكبرى، والتحزبات المقنعة والمكشوفة. منها تلك المصطلحات المتشابهات التي لا تزال تجر مع كثير من أتباعها المصائب والمحن، ما ظهر منها وما بطن. وهم يعلمون أن يد الله مع الجماعة، وأن من شذ شذ إلى النار، ولكنهم تخاصموا فانقسموا.
2 ـ هل تسمية الفرق والتميز بها ضرورة دينية؟ لا، وألف لا.بل هي أغلاط سببها التعصب والعناد والكبر، أو قل هي من الخطيئات التاريخية في الفكر الإسلامي.
قال محاوري: وهل اختراع المصطلحات أمر مذموم؟ فاللغة وَلُودٌ، وظروف الحياة متجددة ومتطورة، وقد كثر الناس وانتشروا على هذه الأرض، فرأى بعض المسلمين اجتهادا منهم، أنهم لما رأوا ناسا باسم الإسلام قد انحرفوا، سموا أنفسهم باسم يميزهم عن باقي المسلمين، مثلما رأى بعضهم أن الأنظمة السياسية قد انحرفت عن السياسة الشرعية، أنشأوا لأنفسهم أحزابا ليتميزوا بها، وليعارضوا بها. فالنوايا حسنة؟! هكذا قال محاوري، ثم أضاف قائلا: ومن المصطلحات التدينية المحدثة، منها مصطلحات هادفة وجميلة وتدل على شدة التمسك بأصول الدين، وهذا أمر مُشَرِّف؟مثل مصطلح أهل السنة والجماعة (السنيون) وأهل السلف الصالح (السلفيون) وأهل الأخوة الدينية الإسلامية (الإخوان المسلمون) وأهل التصوف والزهد ( الصوفيون) ومصطلحات أخرى كثيرة. ثم ألم يقل العلماء لا مشاحة في المصطلحات والتسميات؟
قلت لمحاوري: لا مشاحة في المصطلحات العلمية، وأسماء المخترعات التقنية، في وضع أسماء لما تكتشفه أنت كمسلم في إطار البحوث العلمية، في الفلك، والإعلام، والمواصلات، والطب، والفيزياء، وسائر النظريات العلمية، وليس في اختراع الفرق والمذاهب. وتدبر هذا المثل: فرضا وأنت مسلم، وأنك رأيت بعض الذين ينتمون إلى الإسلام مخالفين منحرفين، فاخترت لنفسك وجماعتك عنوانا تتميز به حبا في الإسلام، ولتكون أكثر وأحسن التزاما بالإسلام، ونيتك صادقة، وغرضك نبيل، ولنفرض أنك اخترت هذا العنوان: ( أولياء الله) اسم هادف وجميل أليس كذلك؟، ثم بدأت تصف نفسك بهذا الانتماء، وبدأ الناس ينتمون إليك إعجابا بجمال دعوتك ووعودك، وبجميل العنوان الذي ترفعه شعارا لك، وبدؤوا يَتَعَالَوْنَ على الجميع، باسم {جماعة أولياء الله} فرحبت بهم في البداية وفَرِحْتَ بهم، لأنهم يُكَثِّرُونَ سوادَك، ويَقْرَعُون نِعَالَهُم ورَاءَك، ويمدحون خصائصك واستنكافك. ثم إن بعضهم بدأ بالانحراف، والقيام بأعمال تخالف الدين، أو خالفوا منهجك، كما يقول الفرقيون. وأنت نفسك صرت تنكرها عليهم، وهم لا يزالون يقولون إنهم منكم، إنهم (جماعة أولياء الله). فماذا تسمي نفسك إذا أردت أن تتميز على هؤلاء أيضا؟ ستقسم فرقة (أولياء الله) إلى أنواع. فتقول: نحن أهل حقيقة أولياء الله. والآخرون أولياء الله العاديون!! وسئل أحد المسلمين الذين يسمون بالسلفية. قيل له: جماعة يسمون أنفسهم سلفية، ولكنهم يفعلون كذا، وكذا. فقال للسائل: السلفية مراتب يا أخي، قال كيف؟ قال: السلفية السنية، والسلفية الجهادية، والسلفية الإحيائية، والسلفية الوهابية، والسلفية العلمية، والسلفية التابعية، والسلفية المعاصرة! وعندما سئل أحد المحللين والمتخصصين في دراسة الفرق (كما يقولون) عن سبب الفُرْقة بين المسلمين إلى فرق، قال:{حب الاحتكار والتقديس} نعم كل جماعة تحب أن تحتكر لنفسها تمثيل الدعوة الإسلامية، وتعمل على تقديس نفسها، كوصي على السنة، وتعادي كل من يريد أن يظهر في الميدان، ويشاركها فيما تحتكره لنفسها. وبهذه الأنانية والاستكبار تبدأ العداوة، حتى بين العلماء الدعاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حتى بعض العلماء الدعاة لا يحبون أن يظهر دعاة آخرون، ويتمركز كل عالم داع في زاوية خاصة به، ويحب أن يلتف الناس حوله وحده، وأن يشار إليه وحده ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ للبحث تكملة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.