متى تستأصل أورام سرطان منع ترجل مدرسة جزائرية؟! الدكتور العربي دحو
المؤكد عندي أن كل ما اتفق عليه عند الأمة حتى صار ثابتا عبر أجيال وعصور فخصتها بتميزها ومنحاها، وأكد للعالم أن حصنها المنيع وواقيها الذي تتحطم عليه الصواعق التي تحاول اختراق فضاءاتها وأعطاه مياسمه حضورا توارثته البشرية في حضور بصماتها زمنا بعد زمن، ومنه ما اعتلى كراسي الشاهد النموذج فيها في مجالات شتى.
إن كل ذلك والذي ظل يسجل تراكمات يستحيل لأي كان أن يقف لها على بدء، أو نهاية في زمننا هذا مهما أوتي من الإدراك والمعارف والوسائل ويبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فإنّ عارض يظهر أو معوق يستفحل، أو غاز تبتلى به الأمة، فإنه يتحطم على الآليات التي تواجهها به تلك الثوابت من مكوناتها وفي زمن قصير، أو سريع عابر يعود المنهج المؤسس إلى التأصيل والمضي في علاج ما غير أو حرف، أو حتى ألغي ببعثه مجددا، إلى أن يتحقق، وبدقة وصل ما انقطع فيمضي في الإشعاع، وفي تأسيس ما يستدعي إضافته وفق التطور الحاصل، ولكن من منطلق مرجعيات صيانة خصوصيات الأمة، وتمكينها من مواكبة ما يجري في العالم مما يمضي بها طفرات نحو الأعلى والأمثل.
وعلينا إن كنا بنوايا خالصة وصادقة، وأمينة بريئة لخدمة الأمة أن نستدعي تراكماتنا العلمية، والمعرفية، والثقافية، والتاريخية، والفنية، واللغوية، و.. من كل الأزمنة التي عشناها ضمن مسيرة البشرية، وتلك طبعا لا تعطيها لنا إلا المدرسة، ولا نحصل عن مكوناتها إلا من مسيرتها في جميع المستويات السابقة. ولو أمكن لي لقدمت نماذج صارخة دقيقة عن حالات، وقضايا عن كل هذا تثير الدهشة عند من يؤمن بأمتنا ومسيرتها في أي مجال كان، وإن لم يصل حد الدهشة لذلك، فإنه قطعا سيرعوي ويقرأن الأمة المسماة الأمة الجزائرية، التي صيرها المتسللون أو الممكنون من مواقع أعطوا من الوسائل ما يحتاجون وما لا يحتاجون إليه وجدوا واجتهدوا حد الإسراف والمبالغة، وما يزالون كذلك سعيا منهم استنواقها على حد مقولة الشاعر العربي، إنما يظلمونها ويفترون عليها، ويمسخونها وهم بذلك إن آمنوا أنهم أفراد منها بانتماء حقيقي، صادق، عجنت ذواتهم من تراب وطنها ومائها وجف بأشعة شمسها النادرة في الكون وأنعشت بهوائها الذي يحج إلى فضاءاتها من بقاع الدنيا للعلاج، والتمتع به.
أقول إنهم فعلا إن كانوا هكذا إنما هم “يستنوقون” أنفسهم، ويمسخون ذواتهم ويمارسون ضدها بسادية ما لها من مثيل في هذا السياق في كل ما اطلعنا عليه.
لنسأل الرومان، والوندال، والبيزنطيين، والأتراك، والفاتحين أيضا، وهم ليسوا عربا فقط كما يضلل شذاذ الآفاق أبناءنا كما يدعون لنسألهم ما فعلوا، وما حاولوا فعله في مؤسساتنا، وبخاصة منها المدرسية التي هي عماد الأمة، وروحها، وعقلها، وجوهرها في جملة واحدة هي المواطن، المواطن الجزائري الذي لا يكون إلا جزائريا، والإنسان الذي يشترك مع أخيه الإنسان في كل العالم، ولكن بما يوجده عليه الأبوان الجزائريان وما تعده عليه للحياة مدرسة تسمى المدرسة الجزائرية لسانا، ومعرفيا، وفكريا، ثقافيا، حضاريا، تاريخيا، لأنه يستحيل أن يكون مواطن أي أمة ناجحا في عيش حياته صحيحا، سليما، ما لم يكن معتمدا في تكييف مسيرته على ما هو موجود في المكان الذي وجد فيه، وترعرع على أديمه، والكل يعلم أنه حتى الأصوات اللغوية إنما تدقق وتأخذ صورتها الكاملة الصحيحة بوسائل مغذية لصاحبها كالماء والهواء، والأرض، ولمن لا يؤمن بهذا نسأله إن كان من تعلم أي لغة أجنبية عن لغة أمته في وطنه ينطقها بذات النطق الذي يخص نطق صاحب تلك اللغة في أرضه.
إن القول يطول إن أردنا إحاطة ما نقوله أو نسمعه في زمننا البليد الذي نحياه بخصوص ما يسمى بالإصلاح والذي لا نعرف منه إلا اسم “الإصلاحات” ولا نسمع من مضمونه إلا القول أن لجانا قد اجتمعت وأن خبراء فرنسيين يصولون ويجولون في محارب شهدائناو المتوجين بمليون ونصف مليون ثورة نوفمبر العظيم، وكأن المدرسة الجزائرية تبدأ الآن أو بالأمس القريب، حتى تحاط بالضبابية العجيبة أو الظاهر أننا ما زلنا نتصور أننا في فترة 1962، والتي فيها انطلقت مصادرة المدرسة الجزائرية، ومع ذلك فالفئة القليلة من أبناء الوطن الشرفاء الأصلاء الذين تخندقوا في الميدان لحماية الأمة في هذا المجال آنذاك قد حققوا قليلا أو كثيرا بحسب جهدهم وآلياتهم لتأصيل المدرسة الجزائرية التي كانت قبل الاحتلال، وبعثتها جمعية العلماء، وبذل جهدا لجعلها متكاملة الأمير خالد وغيره، ومدتها الزوايا بما هو معروف أكان المراد والمطلوب أم لا، فذاك عند أهلها ذات الحال.
وفي الثورة التحريرية، وهي الفترة التي نادرا ما يتحدث عن المدرسة فيها وهي قد كانت حاضرة، في كل المناطق المحررة وتخرج فيها إطارات بعضها ما يزال في المناصب العليا للدولة، بل وقد وجهت بعثات من طلابها إلى الخارج للتخصص في علوم مختلفة وحققت ما حققت في الأمر، وللذي يريد الوصول إلى الأشياء بمسمياتها، والأمور بحقيقتها أن يعود إلى كتابينا: “المنظومة التربوية المدرسية والعلمية الجامعية. بين جهود التأصيل ومفتعلات التعطيل” وهو متداول في السوق و “إضاءات ومعالم من فضاءات الثورة التحريرية”.
وقد كان أول إصلاح للمدرسة الجزائرية وبمستوى شامل غطى ما ينقص التأسيس ورسم منهجا تعليميا تربويا ثقافيا شاملا لتكون المواطن الجزائري المنشود في مواجهة حينه، وبناء مستقبله، ومستقبل الأمة، فكان ذلك المنهج مستهدفا ثلاث محاور أساسية:
1- المقعد لكل طفل جزائري في المدرسة.
2- الجزأرة.
3- النوعية.
وسارت الدولة سيرا ممتازا كما نذكر جميعا فقد حظي أبناؤنا بالمقاعد في المدرسة، واستغلت كل الوسائل لتكوين المعلمين، فجزئرت تباعا من الابتدائي إلى الجامعة.
وحين شرع في النوعية لا يمكن لأي كان أن ينكر تحقق ذلك إلى حد بعيد.
ولأن فرنسا لا تنام عينها أبدا عن وطننا، وأمتنا، وكل ما يخصنا فقد كانت باستمرار ودون انقطاع وعن طريقها تضع في أحذيتنا حجارة وللناسين والطيبين أن يتذكروا المرحوم الأشرف وانقلابه المعروف وما دبر لمعالي الوزير علي بن محمد والمدرسة الأصيلة، وما تم فعله مع المدرسة الأساسية مع معالي الوزير خروبي كذلك. ومحطات أخرى، فهذا الشريط في تقديري يغني عن القول، بل يمكن لي استعمال عبارة التأكيد أننا بدون إعادة الإبل إلى مراكبها، ورسو سفن كتلك التي رست على شواطئنا سنة 1962 بعد تقرير مصيرنا واعتمادها من قبلنا وتوظيفها في إشكالية المنظومة التربوية للوصول بها إلى مستوى قول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم… فلا تقنع بما دون النجـــــوم
فطعم الموت في أمر حقيـــر … كطعم الموت في أمر عظيم
فإن مدرستنا لن تصنع ذاتها ولن تحدد مستقبلها، ولن تعطينا المواطن السوي السليم، كما لا تمكن المواطن ذاته مما ينبغي عليه أن يعرفه ويتعلمه ليرسم طريقه في الحياة، ويعد الوسائل التي تساعده على مواجهة كل ما يعترض طريقه، ويبقي حال أبنائنا الذين هم عليه الآن هو نفسه عند الموجود، والتائه الضائع في الشارع، والزمن حاكم بيننا مستقبلا، ولكن المصيبة أن يكون ذلك بعد غوص الفأس في الرأس وليس وقع الفأس في الرأس فقط.