هكذا يحاصرون الإسلام- عبد العزيز كحيل

لا تصدقوا ما يُثار حول ” الإسلام السياسي”، فليس هناك إلا إسلام واحد هو دين متكامل جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من ربه، هو شيء آخر غير المسيحية الكنسية، إنه نظام حياة، يشتغل بشؤون الدنيا اشتغاله بأمور الآخرة، لا يؤمن بمقولة ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فقيصر وما له ملك لله تعالى، أما مقولة سعد زغلول ” الدين لله والوطن للجميع ” فعبارة تستطيع تقليبها على وجوهها الأربعة فلن تجد لها أي معنى. إن الإسلام ليس صوفية تهتم بالجانب الروحي، ولا هو عبادات وأذكار وأوراد، ولا هو سياسة تسيّر حياة الناس، ولا هو جهاد وقتال … إنه كلّ هذا في آن واحد وفق الفهم المقصدي العميق لنصوص القرآن والسنة، بعيدا عن التبعيض والسطحية والبتر.
إذا استثمر بعض المسلمين – من خلال العمل الحزبي والتحرك المجتمعي – في السياسة ووضعوا برامج مفصلة مستقاة من الوحي لتسيير شؤون الحكم والاقتصاد والتربية والعلاقات الخارجية، بينما يستثمر آخرون في النشاط الدعوي والعمل الخيري فإن كل ذلك من صميم هذا الدين، وإنما يتضايق الخصوم مما يسمونه الإسلام السياسي لأنهم يعرفون أن أغلبية الأمة تدير لهم ظهرها وتقبل على الإسلاميين لأنهم يمثلون ثوابتها ورغباتها إلى جانب ما يعرفون من الحصيلة المفلسة للعسكر والعلمانيين الذين حكموا البلاد العربية عشرات السنين فلم يجلبوا لها سوى التخلف والفساد ومزيد من التبعية للغرب، بناء على هذا ينبغي الانتباه إلى سوء استخدامهم لمصطلح الإسلام السياسي، وهو مصطلح دخيل يحمل إيحاءات سلبية، وإذا حدث سوء تطبيق من الإسلاميين في قضية أو أخرى فهم مسؤولون عنه ويبقى الإسلام مرجعية جميع المسلمين إلا من انسلخ منه طواعية من التغريبيين والعلمانيين ومن على شاكلتهم، والتخويف من “الإسلام السياسي” وتطبيق الشريعة هو بضاعة هؤلاء وحدهم أما الأمة فقد أعلنت انحيازها لدينها كمنهج حياة وكرّرت ذلك كلما أتيح لها أن تعبّر عن رأيها بحرية، فقد زكّت القوائم الإسلامية في جميع البلاد العربية وجدّدت لها ثقتها مرة بعد أخرى، لذلك قرّر العسكر في بعض هذه البلاد ألاّ يخسر الانتخابات، أما التخويف من الإسلاميين حين يصلون إلى السلطة فسخافة كبرى لأن العلمانيين ينصبون أنفسهم أوصياء على الشعوب كالعادة ولا يعطون الفرصة للإسلاميين ليختبرهم الرأي العام في الميدان، لأن القضية ليست الخوف على الحرية والديمقراطية كما يزعمون بل هي نقيض ذلك، هي الخوف منهما، ولا أجد أبلغ مما كتبه الشهيد سيد قطب رحمه الله في الموضوع منذ زمن بعيد، فقد قال: ” وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام ومن راية الإسلام. تحذرنا عداء العالم الغربي إذا نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمّعْنا كتلةً تحت رايته. كأن هذا العالم يساقينا اليوم كؤوس المودة!. وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن الواحد. كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق!.
وتحذرنا ما هو أشد وأنكى، تحذرنا طغيان الحكم الإسلامي..تحذرنا هذا الطغيان كأنما ننعم اليوم في بحبوحة الحرية!. وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين كأننا الآن لا نذوق منها الأمرين!.
إنها تعلات فارغة لا تخدم أحداً إلا المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل الإسلامي تحت راية الإسلام، لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا، وما أدركه جلادستون من أن راية القرآن يجب أن تُمزَّق قبل أن يتسنّى للرجل الأبيض حكم هذه البقاع الإسلامية. ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه الراية من جديد”.
هذا حالنا اليوم، لذلك نرى كيف استنجد غلاة العلمانيين العرب بالغرب والكيان الصهيوني- أو كيف جنّد هؤلاء أولئك العلمانيين – للقيام بالثورة المضادة وإبطال اختيار الشعوب الحرّ وإفساد الربيع المسالم وتسليط العسكر والجماعات المصطنعة لتخريب المجتمعات العربية لأن الديمقراطية – حتى قبل ” الإسلام السياسي ” – هي التي تهدّد الغرب والصهاينة وأتباعهم من العرب، وتنوّعت الأساليب للوصول إلى غرض واحد هو الحيلولة دون تحرّر البلاد العربية وقيام أي نظام ديمقراطي فضلا عن الحلّ الإسلامي، ففي مصر قام انقلاب عسكري دموي غادر لا مبرّر له إطلاقا سوى منع الإخوان المسلمين من الاستمرار في السلطة وتجسيد نموذج الحكم الإسلامي، وفي تونس حدثت اغتيالات سياسية يكاد يعرف القريب والبعيد منفذّيها استهدفت بقاء حركة النهضة في السلطة، وتدخل أبناء زايد بقوة وبصراحة ووضعوا أموال دولة الإمارات تحت تصرف الاستئصاليين العلمانيين للانقلاب على المسار الديمقراطي، وفي ليبيا رفعت أوساط الفساد والاستبداد فزاعة ” الإسلام السياسي” لمنع قيام حياة سياسية طبيعية ولم يتوانوا عن خلق فتنة متشابكة للوصول إلى أغراضهم، وحدث ما يشبه ذلك في اليمن لمنع تجمع الإصلاح من الحكم ارتضاه له الشعب، أما في سورية فإنهم ساندوا الطاغية المتجبر بكل قوة وخلقوا من أجل تحقيق مقاصدهم تنظيما هجينا مخيفا سموه “داعش” يعرف كل متابع أن لا علاقة له لا بالإسلام ولا بسورية، بل هو ذريعة مخابراتية لوقف المدّ الإسلامي، وقبل هذا حرموا حركة حماس من حقها في التسيير بعد فوزها العريض في الانتخابات وانقلبوا من رافعين لشعار الديمقراطية إلى لاعنين لها، وأخرجوا كل ما في جعبتهم من مفردات منفّرة لوصف الحركة المقاومة المجاهدة وتنادوا جميعا على تجريمها ومحاصرة غزة وإعطاء الصلاحيات لسلطة رام الله التي خسرت الانتخابات، وبعد ذلك حاولوا الإطاحة بالحكومة الإسلامية في تركيا، لسبب واحد هو إسلاميتها، رغم ما حققته من نتائج سياسية واقتصادية مذهلة، وما زالت جهات شتى تفتعل لها المشكلات وتتآمر عليها في السر والعلن.
إن الحرب المكشوفة على ما يسمونه ” الإسلام السياسي” محاصرةٌ للإسلام ذاته حتى لا يكون له حضور في حياة الناس العامة، وحتى لا يكون منهجا للحياة، لا يقيم حضارة ولا يُسعد البشر، بل يصبح بيد الدراويش والمغفلين والقشوريين والطرقيّين ورجال الدين الموظفين لدى الأنظمة غير الشرعية، يدور بين دورات المياه والقبور والخضوع للقصور، والإسلام الوحيد الذي نؤمن به هو آيات القرآن كلها بدون أي استثناء وجميع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة، كل ذلك وفق القراءة الأصيلة المعتدلة لعلماء الأمة وفقهائها ودعاتها الذين فهموا أن هذا الدين يخاطب العقل والقلب ويعنى بشؤون الفرد والأسرة والمال والحكم ليصلحها ويجلب للبشر السعادة، كما يبشر المؤمنين بالسعادة في الجنة، وكم أتمنى من الإخوة أصحاب النيات الطيبة الذين تأثروا بدعاية المستشرقين والتغريبيين والعسكر أن يتعاملوا مباشرة مع كتاب الله وسنة رسوله ليقفوا بأنفسهم على حقائق الإسلام فيسهموا في فكّ الحصار عنه بدل أن يساهموا مع أولئك في محاصرته، كما أتمنى منهم أن يقلعوا عن تجريم جماعة الإخوان متأثرين بتلك الدعاية المغرضة، فما للجماعة من جريمة سوى التفاف أغلبية الأمة حولها لأنها تمثل الإسلام الوسطي على نهج النبوة.