مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
مواقف دينية

الموسوعة التشريعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية- الشيخ محمد مكركب

من الحلول الجذرية والأسس القاعدية المطلوبة من علماء هذا العصر، للمحافظة على التمكين، وحفظ وحدة المسلمين، والانطلاق نحو عمليات التغيير والتجديد، على نهج الوحي إعداد الموسوعة التشريعية المؤصلة بالآيات القرآنية المحكمة، والأحاديث النبوية الصحيحة، المتفق على صحتها، وما أجمع عليه الصحابة والتابعون، لإخراج الأمة من متاهات التعصب الفِرْقِي والمذهبي، ووقايتها من أراجيف دعاة الفتنة.
وأعني هنا جمع وترتيب أحكام الشريعة، وليس الاجتهاد الفقهي، فالشريعة التي تحكم العالم اليوم هي:(الأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده، للعمل بما كلفهم به على الوجه الذي يريده، بلا زيادة ولا نقصان، وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الرسالة العامة العالمية الخاتمة الدائمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهما المصدران الأساسيان لأحكام الشريعة). وبهذا العموم والشمول ترادف كلمة الدين كنظام شامل لحياة المتدينين، قال الله تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة:3) وأما الفقه كما عرفه الفقهاء فهو:( العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) وكأن الشريعة هي الأوامر الإلهية، التي لا يجوز للناس مخالفتها، والفقه هو فهم طريقة تنفيذ تلك الأوامر.
ما المقصود بالموسوعة التشريعية؟ أو المنظومة التشريعية؟ المقصود: تأليف منظومة تشريعية قانونية في مؤلف جامع مرتب، وفق كل مجالات الحياة التي عالجتها الشريعة الإسلامية. كما بينا ضرورة المرجعية في البحوث السابقة في الإيمان، والعبادة، والسياسة (الحكم) والأسرة، والمعاملات في البيوع والشهادات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها. وتخص أحكام الشريعة من القرآن والسنة بغير الفروع التي تنوعت بشأنها أقوال العلماء بناء على تنوع اجتهادهم. والهدف أن يتم تبيان دائرة أحكام الشريعة المنصوص عليها بصراحة ووضوح، وما يجب أن يجتمع عليه المسلمون، حتى يتم التمييز بين الشريعة، والاجتهاد في تطبيق الشريعة. كما هو الفرق بين القرآن وتفسير القرآن، وبين الحديث، وشرح الحديث.
فالمنظومة التشريعية المقصودة في هذا البحث تجمع كل حكم مؤصل ومقرر بقال الله تعالى، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع الصحابة على كذا. والاعتماد في رواية الحديث هو ما أجمع عليه علماء الحديث.
وهل يوجد ضرر في غياب هذه الموسوعة؟ غيابها وعدم إعدادها كان ولا يزال سببا من أكبر الأسباب في التنازع بين المسلمين، خاصة بعد ظهور المذاهب، والفرق.
ألا يكفي المسلمين أن يعودوا إلى الآيات المحكمات والأحاديث النبوية ويَحُلُّوا مشاكلهم، ويسيروا شؤونهم، ويكيفوا معاملاتهم؟ قلت: إن الله تعالى أكمل الدين، في الآيات المحكمات، لكن هذه الآيات تقتضي منا أن نبين ترتيبها مفصلا. وعلى سبيل المثال عندما قامت الفتنة الكبرى، واشتد النزاع بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان.رضي الله عن الصحابة جميعا. كانت الآية القرآنية:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾(النساء:59) وغيرها من آيات الأحكام في الموضوع موجودة، ولكن حدثت الفتنة، ووقع ما وقع من الحزن والألم، من أجل من يكون الخليفة، بسبب أن العلماء يومها لم يجتمعوا، ويصدروا بيان ترتيب أحكام الشرع في القضية، مع أن القرآن هو القرآن والسنة هي السنة، وإلى اليوم مازال العلماء لا يجتمعون، ولا يجدون من يجمعهم ليفتوا في قضايا المسلمين بما شرع رب العالمين، قد يقول قائل الأحكام من القرآن والسنة واضحة، وأولئك هم الصحابة؟ قلت: وفي عصرنا هذا أيضا الأحكام من القرآن والسنة واضحة، ومعنا في كل البلدان الإسلامية علماء، وعلماء، ولكن بدون مرجعية تشريعية مفصلة للأحكام الثابتة، ستستمر الفتن، والاختلافات.
وفي الجزائر في التسعينيات من القرن العشرين للميلاد، وقعت الفتنة السياسية المؤلمة وتحولت إلى فتنة حرابية جاهلية بين أهل الحماقة وأهل الاستبداد، ووقع ما وقع من الشر والفساد، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية موجودة، وكان ما كان من المصائب والبلاء، ومن الأحزان وإراقة الدماء، فما الذي كان ينقص إذن؟ كان ينقص تبيان طريقة العمل بالآيات والأحاديث المحكمة. أي التقنين التشريعي المفصل من خلال أحكام الشريعة.
قال محاوري: لماذا يرفض الحكام جمع العلماء للإفتاء في قضايا الأمة، قضية، قضية،؟ وبيان أحكام الشريعة فيها؟ لماذا يرفضون إعداد الموسوعة التشريعية لأحكام الشريعة والعمل على أساسها؟ هل الصعوبة مادية؟ أم شرعية؟ أم علمية؟ خاصة ذكرتنا بفتنتين من بين مئات الفتن إن لم أقل آلاف الفتن المأساوية الدامية.
قلت: هي أسباب كثيرة مباشرة وغير مباشرة، منها: السبب الأول: أن بطانة الشر التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتدت شوكَتُهَا وتنوعت دسائسُها، في ظل ضعف المستوى العلمي في الجانب التشريعي الديني لدى كثير من المسئولين السياسيين، وضعف بطانة الخير واشتغالها بالمرتبات والغنائم والامتيازات.
السبب الثاني: الضعف الاقتصادي، الذي جعل مفكرو غير المسلمين يضغطون على بعض حكام الشعوب الإسلامية. السبب الثالث: أذكره والأسف يمزق القلب هو انقسام العلماء واختلافهم.عالم مع الإخوان، وعالم مع السلفية، وعالم مع ثورات المطالبة بالرحيل، وعالم مع الحاكم ولو كان هو الظالم، وعالم مع الشرعيات، وعالم مع الانقلابات، وعالم مع التغيير، وآخر مع الثوابت والثبات.
قلتم، من أهداف الموسوعة التشريعية المحافظة على التمكين، وتحقيق التغيير والتجديد. ما هو التمكين المقصود؟ وما هو التجديد المراد؟
التمكين للدين الحق، لأن يُعْبَدَ اللهُ تعالى على هذه الأرض وحده لا شريك له، التمكين لأن تُحَكَّم شريعةُ الله تعالى في عباده، التمكين لبني الإنسان ليستمتعوا بنعم الله تعالى على هذه الأرض، التمكين للإنسان أن يعيش حرا على هذه الأرض يمشي في مناكبها ويأكل من رزق الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾(النور:55)
لأن كثيرا من الناس من غير المسلمين الذين لم يدرسوا القرآن والسنة بقصد الفهم والإيمان، ما زالوا يظنون أن العمل بشريعة القرآن والسنة فيه مشقة على الإنسان، وتقييد للحريات كما يدعي الملحدون والطاعنون في الدين، لذلك عندما توضع بين أيديهم المنظومة التشريعية الواضحة، وأنت تعلمون أن شريعة الله تعالى خير كلها، وعدل، ورحمة، وحكمة،. وحين ترتب الأحكام في مرجع واضح بذلك العدل، وتلك الرحمة، حين ذاك يُمَكَّنُ للدين، وعندما يُمَكَّنُ للدين، يعيش الناس حياتهم في ظلال العدل والرحمة والحكمة.
أما التجديد المفيد الذي يتحقق بفضل الله تعالى، ثم بسبب إعداد الموسوعة التشريعية. فهو التجديد الذي يبدأ بالتخلص من شبهات الخلط بين الأصول والفروع في الشرح والبيان، إذْ أن كثيرا من العلماء يخلطون في فتاواهم بين الأصول والفروع في الاستدلال، لحل المسائل، ولا يبينون للناس الفرق بين الحكم الشرعي والحكم الفقهي، أو اجتهاد المفتي في المسائل الفقهية. فاجتهاد الفقهاء ليس كثبات النص الشرعي من القرآن أو السنة.
فإنه من أهداف التجديد: التخلص من الخلط بين النص الشرعي في مجال الشريعة الدائمة الثابتة العالمية، وبين اجتهاد العالم في مجال الفقه. وبوضع الضوابط الضامنة لثبات الأحكام الشرعية، وحفظها من التمييع، والتعطيل، وسوء التأويل، بحجة الاجتهاد الفقهي.
وليقوم القضاء الحق، ويسود العدل لإحقاق الحق، لابد من وضوح الأحكام وثباتها، وكمال القوانين وتفصيلها. والله تعالى يقول في دعوة الناس إلى تطبيق الشريعة:﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الأنعام:151).
وسنبين في جزء ثان إن شاء الله تعالى بعض الكيفيات﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(الجاثية:18).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى