الفعل الحضاري.. يحتاج منطقاً عملياً- بدران مسعود بن الحسن
في لحظة ميلاد المجتمعات والحضارات تكون الدفعة الروحية هي الأساس، وهي ما يفتح الأفق للعمل الذي يغير تاريخ ومصائر الشعوب، أما إذا بدأت لحظة الميلاد بالنقاش البيزنطي وسوق الكلام الفارغ والأفكار التي ليس لها كثافة الواقع ووزنه، فإن تلك الشعوب سرعان ما تدخل في دائرة الفراغ، حيث أنها كلما مشت خطوة انقلبت على عقبيها إلى نقطة البداية، في جدل عقيم، كحمار الرحى لا ينفك يدور في الحلقة نفسها.
وهو ما نشاهده في عالمنا العربي خاصة، إذ كثر المتجادلون وقلّ العاملون، بل أن المشاريع النقدية والاعتراضية، ومشاريع الجدل، وفضاءات الرأي كثيرة، غير أنك إذا أمعنت النظر في المتوجه منها للبناء وتغيير الواقع ومغالبة الظروف وتحمل أعباء ذلك في الواقع بكل إكراهاته ومتغيراته، فإنك قل ما تجد مشروعا مرتبطا بواقع الناس يعمل على تغييره، أو يوفر منطقا للعمل يرفد منطق الأفكار. فصرنا ظاهرة كلامية، أو ما يسميه البعض تندرا “كلامولوجي” كأنه علم خاص بالكلام دون العمل.
تحوَّل وجودنا الحضاري إلى ظاهرة صوتية، سرعان ما تهب عليها ريح الزمن، فتنسفها نسفا، وتزيلها من على وجه التاريخ.
ولهذا، لما حاول مالك بن نبي تشخيص أمراض أمتنا، رأى أن من أمراضها أن ثقافتها منذ عصر “ما بعد الموحدين” تفتقد إلى المنطق العملي. وفي هذا يقول مالك بن نبي عن المنطق العملي: “لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله، ووضعت قواعده منذ أرسطو، وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه وذلك حتى لا نستسهل أو نستعصب شيئا، بغير مقياس يستمد معاييره من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانيات.
إنه ليس من الصعب على الفرد المسلم أن يصوغ مقياسا نظريا يستنتج به نتائج من مقدمات محددة، غير أنه من النادر جدا أن نعرف المنطق العملي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون معدوما” (شروط النهضة، ص95).
إنه هذا المنطق الذي نفتقده، فغاب عنا التوجه لحل مشكلات الواقع، والبحث عن حلول عملية لها أفق نظري ومنطق عملي. وتحولت كل المبادئ والمقولات والقيم الإسلامية إلى مجرد ثقافة كلامية، كما تحول وجودنا الحضاري إلى ظاهرة صوتية، سرعان ما تهب عليها ريح الزمن، فتنسفها نسفا، وتزيلها من على وجه التاريخ.
فصار الواحد منا لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا، بل أكثر من ذلك، فقد صار الواحد منا أحيانا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول إلى عمل ونشاط، ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي، كما يقول الأستاذ مالك بن نبي أيضا.
بينما أمم أقل منا امتدادا في التاريخ، وعمقا حضاريا، وثراء في التجربة، سلكت لنفسها طريقا يبسا في بحر الإنجاز ودروب الحضارة، لأنها استطاعت أن تحول أفكارها إلى مشاريع عملية في الواقع، وإلى منجزات تحقق لأبنائها حلولا لما يواجهونه من مشكلات، وتزودهم بمنطق عملي يزودهم بالقدرة على الابداع وتوفير المنتج المادي والمعنوي الذي يحقق تحضرهم وازدهارهم.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم كما جاء في سنن الترمذي وابن ماده والبيهقي وغيرهم “ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل” ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون.