مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

دراسة تقويمية لإصلاحات الجيل الثاني- بقلم أ.خير الدين هني

فلسفة بناء المناهج:
قبل الخوض في تحليل تقنيات إصلاح الجيل الثاني، ينبغي الإشارة إلى أن النقد التربوي يقوم على مبادئ سيكوبيداغوجية، وليس على الآراء الشخصية والانطباعية التي تتداخل فيها العوامل الذاتية، من ثقافية وأيديولوجية…وغير ذلك.
إن الجدل المحتدِم الذي تدور وقائعه على الساحة الإعلامية والسياسية، بخصوص ما أسفرت عليه إصلاحات الجيل الثاني، لا يرقى في معظمه إلى مستوى التطلعات الوطنية التي تسعى التربية إلى بلوغها، والتي كرستها مواثيق الدولة في دساتيرها المختلفة.
إن النقاش غير المسئول الذي أخذ يدور في بعض الوسائط الإعلامية ممن يستهويهم فضاء الثقافة الفرانكفونية، وبتشجيع من بعض الدوائر النافذة في الحكم، أخذت تصدر آراء غير متوازنة بأن اتهموا من يخالفونهم الرأي من أصحاب الفضاء العروبي والوطني، بأنهم متخلفون رجعيون، لأنهم رفضوا إدراج الثقافة الجنسية الداعرة في المناهج الدراسية، ومن غير الالتزام بأدلة موضوعية يدعمون بها آراءهم، ومن غير الاستناد إلى نظريات شهيرة في علوم التربية وأصولها.
ولهذا السبب أخذت على عاتقي – قبل تحليل تقنيات إصلاح مناهج الجيل الثاني- أن أعرج على أشهر نظريات المناهج المعمول بها في الحقول التربوية، لأربط بين أسسها الفلسفية وبين ظواهر الإصلاح في ثوبها الجديد.
إن الحقول التربوية والتعليمية، ليست مجالا لإظهار العربدة السياسية، والنزعات الفردية للمغامرين السياسيين والأيديولوجيين، وإنما هي حقول تستند في إستراتجيتها على نظريات فلسفية وسيكوبيداغوجية، انبثقت عن مدارس كبرى معروفة في حقول المعرفة والإبستيمولوجيا.(علم المعرفة، أو نظرية المعرفة).
ولذلك، فإن الأساس الذي يقوم عليه النقد التربوي، هو ما أسفرت عنه نظرية الأنساق (في المجال التربوي) والبنائية الاجتماعية في بناء المناهج، ونظريات التعلم، وتقنيات التدريس، واستراتجيات التقويم التي تبنى عليها توجهات التربية والتعليم.
والمدارس النفسية والفكرية الكبرى، التي تفرع عنها علم النفس التربوي، ثم علم النفس المدرسي هي الإطار المرجعي لصياغة المناهج والطرائق والكتاب المدرسي.
ولقد عرف الإنسان بالاهتمام الكبير، -منذ عصور قديمة- بالبحث في نظرية المعرفة، ومصادرها وكيفية تحصيلها وبنائها. وكانت المدرسة الأبيقورية بأثينا، تشكل البدايات الأولى في عكوفها على الدراسات النفسية، وارتباطها بتحصيل المعرفة، وكذلك أصحاب مدرسة إخوان الصفا، ومدرسة بادوفا، (نسبة إلى جامعة باد وفا في إيطاليا)، والمدارس الحديثة كالمدرسة التحليلية والسلوكية والوظيفية والقصدية والبنائية، وغيرها…وما انبثق عن هذه المدارس من آراء وأفكار حول مصادر المعرفة، ونظريات التعلم وبناء المناهج، واستراتيجيات التدريس، والمقاربات النشطة ومفاهيم الإدماج في الأنشطة التربوية.
وقد نتج عن هذه المدارس علم النفس المدرسي الذي يُعد فرعا من علم النفس التربوي، يهتم بالمشكلات النفسية والانفعالية، وصعوبات التعلم وعوائقه، وبناء المناهج والتوجيه المدرسي، وهذا الفرع له علاقة مباشرة بعلم النفس السريري الإكلينيكي، وهو علم يدمج بين العلوم والنظريات. والمعرفة السريرية غرضها فهم طبيعة القلق والتوتر والضغوط النفسية، وما ينتج عن ذلك من خلل وظيفي يؤثر على السلوك العام للفرد.
وهذه الفروع ترتبط ارتباطا عضويا بعلم النفس التربوي، وهو فرع من علم النفس العام. ومجال اختصاصه هو النظر في السلوك الإنساني في مجالات التربية والتعليم، ويهتم بالدراسات النظرية والإجراءات التنظيمية في مجال ترقية النفس، وتنمية قدرات المتعلمين ومواهبهم وفق إمكانات وحاجات كل فرد، (الفروق الفردية). وحملهم على التكيف والاندماج مع المواقف المختلفة، لبناء شخصية متوازنة وقوية، تتسم بالنضج والانسجام والكمال.
والمنهاج التربوي يشكل العمود الفقري للنظام التربوي، فهو الذي يعكس واقع المجتمع وفلسفته وثقافته وحاجاته وتطلعاته، ويعتبر الأداة المثالية التي تعتمدها الدولة في تنفيذ سياستها التعليمية والثقافية في أبعادها، السياسية والثقافية والتربوية، والاقتصادية.
وحسبما هو مقرر في الأدبيات التربوية، فإن المجتمع هو المرجع الأول الذي يستقي منه المنهاج تصوراته التربوية وتوجهاته، لارتباطه بالنظم الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية. وبما أن المدرسة مؤسسة اجتماعية يقوم على عاتقها تنشئة الأجيال وتربيتهم، وهي التي تقوم بتنمية الفكر والمواهب وتهذيب السلوك الفردي والجمعي، وتوجه الناشئة نحو الأهداف الكبرى التي تسعى التربية إلى بلوغها.
ولكون المنهاج وثيقة تربوية رسمية (دستور تربوي) تنضوي بداخله النظم التربوية، والنفسية والسلوكية والتوجهات العامة للتربية والتثقيف والتوجيه، لذلك وجهت له العناية الكاملة من قبل العلماء والنفسانيين والسياسيين، لأنه أهم أداة تتحقق من خلاله أهداف المدرسة وغاياتها، في حركة طردية للمحافظة على تماسك الأمة وتراثها، مع مراعاة الدينامية التي تراعي قوانين الطبيعة في التغيير والتجديد، كتطور النظم والآليات والنظريات والتقنيات والمناظير والاستراتيجيات..
ومن خصائص المدرسة، أنها تتعامل مع أجيال من الأطفال الصغار والكبار، لهم خصوصياتهم النفسية والفكرية والوجدانية، ولهم ميول ورغبات ودوافع واتجاهات، وهذه الخصوصية تخضع لعوامل التأثير الخارجية التي لها سلطان كبير، على تنمية عقولهم ونفوسهم، وتوجيهها نحو الأهداف التي تتضمنها المناهج الدراسية.
وبما أن أصحاب المدرسة الفرانكفونية، لا يستهويهم إلا الاستشهاد بآراء مفكري الغرب، لذلك فإنني أقول: إن (بوبيت) كان أول من اهتم بمشكلات التربية والتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اعتبر بناء المناهج الدراسية الحلقة الأولى في بناء أي إصلاح تربوي، لذلك قام بتأليف أول كتاب في فلسفة المناهج سنة، 1918م. وقد قدم تعريفا دقيقا لمفهوم المنهاج، وأوضح أنه سلسلة من الخبرات التعليمية، يتعين على الأطفال والشباب أن يحصلوا عليها، من طريق تحقيق الأهداف المتوخاة .
وذهب ( مولنروزاهورك) إلى أن عملية نشوء المناهج، إنما كان نتيجة التحولات الكبرى التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين. والحق يقال: إن أفكار بوبيت الإصلاحية، كانت ثورة عارمة خاضها ضد الأساليب الكلاسيكية التي كانت تنتهج طرقا عقيمة في التربية والتعليم في زمانه، ففي 1918م أعلن أفكاره الثورية على النماذج التقليدية التي كانت مسيطرة على النظم التربوية يوم ذاك.
وقد لمس بنفسه كخبير سيكولوجي، ما كان يسفر عنه النظام التعليمي العام، إذ كان يقذف بجيوش من الطلبة إلى الحياة العملية، بدون فعالية في عالم الشغل والوظيفة والمقاولاتية. لذلك رأى الفجوة عميقة بين طرق التعليم والتكوين في التعليم العام، وبين القطاع الصناعي في الفعالية والنجاعة والمردودية، لذلك قدم تصورا دقيقا لتكنجة التعليم، اقتداء بالقطاع الصناعي (الموضوع شيق الطرح لو سمح المقام).
ولقد رأيت الكثير من المشتغلين في حقل التربية والتعليم، مازالوا ليوم الناس هذا يخلطون بين المنهاج والمقرر الدراسي، وكذلك بين المصطلحات البيداغوجية، والبعض من مؤلفي الكتاب المدرسي، ممن لا تتوفر فيهم معايير الاختيار، يؤمنون بهذا الفهم المغلوط ، ويدافعون عنه، لذلك حين يقومون بتأليف الكتاب المدرسي والوثائق التربوية، يستعملون المصطلحات القديمة للتعبير عن مفاهيم جديدة. وهنا تزداد مشكلة الفهم والاستيعاب لمعظم المعلمين والأساتذة، وحتى المؤطرين والمكونين، وقد لمست هذا بنفسي في الإصلاحات السابقة. وحين يشتبه عليهم الأمر يلتجئون إلى الخوض في تحليل مشكلات التربية بآرائهم الشخصية، فيزداد الهرج والمرج!!!
والخبرة التربوية مطلوبة في أي عمل خطير، يتعلق بتشخيص مشكلات التربوية وتقويم نواتجها، وتحليل بنياتها التركيبية والوظيفية، وعلاقاتها النسقية والاجتماعية، وإصلاح ما يعتريها من خلل وضعف. ولا أقصد بالخبرة هنا قضاء مدة طويلة في ممارسة التربية والتعليم بدون فعالية، فقد يكون قدم الشخص في الوظيفة مدعاة للروتين والجمود والانغلاق، مثلما هو حاصل في البيئة التعليمية والسياسية وغيرهما، ويعرفه الناس بالمشاهدة واليقين، فالذي أقصده بالخبرة –ههنا- هو ما تراكم من المعارف والتجارب الناضجة لسنوات عدة، مع الدراسة الأكاديمية.
وعلى ذلك يكون مفهوم الخبرة، هو معرفة الشيء والتعمق فيه، بالممارسة والاحتكاك، والاطلاع على أبعاده الفلسفية والنفسية والتقنية. وقد يستخدمها البعض للدلالة على التجربة والخبرة معا، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الذرائعي (جون ديوي، أمريكي)، وأنا أرى أن الخبرة هي التجربة الممزوجة بالعلم والدراية والفهم، أما التجربة فهي مجرد الممارسة الروتينية التكرارية الاجترارية من غير فهم ولا علم، وهي التي ينتج عنها الجمود والانغلاق.
وعلى هذه القاعدة يكون اختيار من يقومون بإصلاح النظام التربوي، هي وزارة التربية المخولة قانونيا بجعل معايير دقيقة وصارمة، لاختيار الأساتذة الأكاديمية والمكونين وإطارات التربية اللامعين، للقيام بهذه المهام المعقدة والخطيرة في الوقت ذاته، ولا تعتمد على المحاباة والمعرفة والجهوية، وعلى من يقاسمونهم الولاء الأيديولوجي والسياسي، مثلما هو حاصل- مع الأسف الشديد- وأدى إلى الكوارث المعروفة في السياسة والتعليم، والصناعة والفلاحة والسياحة وغير ذلك..مما هو معلوم لدى الجميع…!!!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى