الدكتور محمد بغداد باي للبصائر: مالك بن نبي مدرسة فكرية نوعية متكاملة، ولكن فكره كان سابقا لأوانه… أجرى الحوار: التهامي مجوري

• إنّ التّربيّة التي يؤمن بها ابن نبي والتي يراها حَرِيّة بإحداث التّغيير المرتقب هي التّربيّة الباديسيّة التي طالما زكّاها وأثنى على جهود أصِحابها، لأنّها تتوجّه إلى الطّبقات الشّعبيّة العريضة. فهي قريبة من شعورها وتعبّر عن مطامحها.
• صفوة القول، كما قال عالم الاجتماع الجزائريّ المرحوم عبد القادر جغلول: “إنّ فكر مالك بن نبي يمثّل البديل الوحيد المتاح أمام العالم الإسلاميّ اليوم”.
• في تسمية الثانوية باسم “مالك بن نبي” في فرنسا، كان التّركيز في المفاضلة بين القديس أوغسطين وفرانز فانون.. وقلت لِمَ لا يكون مالك بن نبي؟! وبعد أكثر من سنتين، اتّصل بي مدير المدرسة، ليبلغني باختيار اسم مالك بن نبي، من قبل رئاسة الجمهوريّة،
البصائر: الأستاذ محمد كيف اكتشفتم مالك بن نبي، خاصة وأنّ الجزائريين لم يهتموا به من قبل؟
محمّد بغداد باي: اتّصالي الأوّل باسم مالك بن نبي يعود إلى عقود خلت، إلى سبعينيّات القرن الماضي. كان ذلك في 31 أكتوبر من سنة 1973م، أي تاريخ وفاة الأستاذ ابن نبي -رحمه الله-. كنت حينذاك في التّاسعة من العمر. ولا زلت أتذكّر تلك اللّحظة التي كنت فيها بجانب أمّي -رحمها الله – وبيدي كنّاشة كنت أسجّل عليها ما أجده من الحكم والأمثال عندما سمعت عبر الإذاعة الصّحافيَ ينعي إلينا خبر “وفاة المفكرّ الجزائريّ الكبير مالك بن نبي”. لقد كنت معتزّا بثورة التّحرير ومتأثّرا بأبطالها ومحبّا للجزائر وشعبها ورجالها ومفكّريها. كنت أحبّ رجال الإصلاح وأعظّم جهودهم الكبيرة من أجل أن تحيا الجزائر عربية مسلمة أبيّة وأرغب في الاقتداء بهم. فعندما التقط سمعي “وفاة المفكّر الجزائريّ الكبير” غرغرت عيناي بالدّموع وحزنت على الجزائر في مصابها. وقد بدأت منذ ذلك التّاريخ أبحث عمن يكون هذا “المفكّر الجزائريّ الكبير”؟
ذكرت اسمه في المخيّمات الصّيفيّة واقترحت تسمية الأفواج باسمه، وذكرته في النّوادي والجمعيات وفي المناقشات الطّلابيّة وفي كلّ المناسبات. وكان قد حصل أن أتاني أحدٌ ممّن سمعوني أتحدّث عن مالك بن نبي بكتابه “الظّاهرة القرآنيّة”. ولا يزال الكثير يوافيني بكلّ ما يعثر عليه إلى يومنا هذا! فجمعت له وعنه الشّيء الكثير.
هذا، وإنّ قراءاتي الأولى لمؤلّفات مالك بن نبي تعود إلى منتصف الثّمانينيّات من القرن الماضي عندما سُمح لكتبه بدخول السّوق. وقد اقتنيت وقتها جميع العناوين التي وجدتها متوفّرة بإحدى المكتبات بوهران والتي بلغ عددها أربعة عشر عنوانا.
البصائر: ما الجديد الذي جاء أو تميّز به عن غيره من المفكرين في العالم العربي؟
محمّد بغداد باي: لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر بأنّ مالك بن نبي تميزّ عن غيره ممّن سبقه أو عاصره من المفكّرين في العالمين العربيّ والإسلاميّ من ذوي التّوجّه التّقليديّ أو الحداثيّ بإقامته لمنظومة فكريّة محكمة ومتكاملة الأبعاد، إن في جوانبها الإشكاليّة النّظريّة أو في كيفيّة معالجتها. منظومة ميّزتها النّظرة الشّاملة لا الجزئيّة للقضايا والمشكلات. وقد كان مدخله في ذلك حضاريّا يُسهِّل التّعرّف على طبيعة المشكلات وموضعتها في موضعها الصّحيح من حيث الأولويّة والأهميّة بالنّسبة للمرحلة التّاريخيّة التي يوجد فيها المجتمع الإسلاميّ. كلّ هذا ينمّ عن منهج علميّ دقيق يتعامل مع الظّاهرة المدروسة حسب طبيعتها والغاية من دراستها. فهو تارة يستعمل المنهج التّاريخيّ، وتارة المنهج الوضعيّ الاجتماعيّ، وتارة المنهج التّحليليّ، وتارة المنهج التّركيبيّ، وتارة المنهج الفينومينولوجيّ (الظّواهريّ)… إلخ. ويصوغ مصطلحات جديدة خاصّة. وفي هذا الشّأن كان يقول: « (…) القضيّة مرتبطة بالحضارة بالمعنى الذي أعرّفها به أنا، وليس بالمعنى الذي يعرّفها به فلان أو فلان. (…) إنّ الوقائع لا تلغى بفضل الألفاظ التي نختارها، فلكلّ مصطلحاته (…) فالذي يهمّنا -نحن- ليست المصطلحات وإنّما الواقع الاجتماعيّ الذي تعكسه هذه المصطلحات». وهو في كلّ هذا تراه يسلك مسلك المربيّ البيداغوجيّ الذي يحرص على تمكين القارئ أو المستمع من فهم الفكرة ووعيها كي يتيسّر عليه تمثّلها وتجسيدها في السّلوك الفرديّ والاجتماعيّ. فقد كان ابن نبي يعتبر أنّ العلاقات الاجتماعيّة هي ظلّ العلاقات الرّوحيّة، لهذا نراه ينشغل ببنائه لنظرية في الثّقافة تخصّ السّلوك لا المعرفة حتى يقلّ كلام المسلم ويتمكّن من العمل حقيقة وفقا لمبادئ الإسلام.
إنّ نموذج المثقّف المسلم الواعي بوضعيّة مجتمعه وبمكانته ودوره في التّاريخ قد تجسّد في شخص مالك بن نبي. فقد مثّل بحقّ نموذج المثقّف المسلم الملتزم. واعتقد أنّ مفكّرينا ومثقّفينا وكتّابنا قلّما اجتمعت فيهم صفة الدّراية وصفة الالتزام معا. وهذا هو -في نظري – سبب عدم وجود أتباع حقيقيين له (ممّن تعرّفوا عليه وكانت لهم صلة به) -ومن ثمّ وجود مدرسة فكريّة بنّبويّة – رغم تشدّق بعضهم بالقول بأنّهم من تلامذته!
البصائر: علمنا أن لكم دراسة أكاديمية عن مالك بن نبي، حبذا لو تحدثوننا عنها؟
محمّد بغداد باي: تتعلّق دراستنا بموضوع التّربيّة. وفيها حاولنا أن نقدّم قراءة نوعيّة تربويّة لفكر مالك بن نبي. واستعمالنا لحرف “اللّام” بدلا عن حرف “في” يدلّ -عندنا- على أنّ كتابات مالك بن نبي هي في العمق كتابات في التّربيّة بما لهذه المفردة من معنى عامّ يتجاوز المضامين المتداولة في حقل الاختصاص المتعلق بالمتعلّم وتنشئته، وبالمؤسّسات التّعليميّة وكلّ ما يرتبط بها من وسائل وبرامج وما إلى ذلك. إنّه معنى يطال المجتمع وثقافته برمّتها، إذ أنّ المفهوم الذي انتهينا عنده ينظر إلى التّربيّة على أنّها “عمليّة تركيب أو تمثيل لعناصر الثّقافة، التي هي الأخلاق والجمال والمنطق والعلم، في نفسيّة إنسان ما بعد الحضارة (ما بعد الموحّدين)”، وعلى أنّها “عمليّة تثقيف متواصلة” لا تقف عند مرحلة معيّنة. وهو ما يجعل هذه التّربيّة تمتاز بالمرونة وبالواقعيّة. كما أنّ هذه التّربيّة تكتسب معنى المنهج الذي بواسطته يتمّ إحداث هذا التّركيب النّفسيّ للثّقافة الذي يحرّر المجتمع من ربقة التّخلّف والتّبعيّة ويخلّص الذّات من عقدها فيجعلها تثق في قدراتها وإمكانيّاتها وتؤمن برسالتها.
إنّه إذا كانت الحضارة، التي تعبّر عن نوع من الحياة الكريمة، بالنّسبة لصاحب “شروط النّهضة” تمثّل المبتدى والمبتغى، فإنّه كان ينظر لإنسانها -باعتباره كائنا اجتماعيّا- على أنّه هو حجر الزّاوية في عمليّة التّغيير المنشود ما دام أنّه هو المطالب بإحداثه. وهو التّغيير الذي تنعكس -في نهاية المطاف -حصيلته عليه في شكل ضمانات مادّية ومعنويّة.
فالتّربيّة إذن هي التي تعمل ابتداء على تغيير نظرة هذا الإنسان إلى نفسه وإلى التّاريخ، من المعنى القدريّ والسّكونيّ إلى المعنى الإراديّ والحركيّ؛ وهي التي ترتقي به لتصيّره “شخصا” ذا نوازع اجتماعيّة وإنسانيّة ساميّة.
وما دمنا بصدد الحديث عن التّربيّة، فإنّنا نقول بأنّ التّربيّة التي يؤمن بها ابن نبي والتي يراها حريّة بإحداث التّغيير المرتقب هي التّربيّة الباديسيّة التي طالما زكّاها وأثنى على جهود أصحابها، لأنّها تتوجّه ـ كما رآها ـ إلى الطّبقات الشّعبيّة العريضة. فهي قريبة من شعورها وتعبّر عن مطامحها.
البصائر: هل لكم دراسات أخرى حوله، وما هي؟
محمّد بغداد باي: نعم هناك أعمال أخرى. ونكتفي بالقول في هذا المقام بأنّ بعض هذه الأعمال يتعلّق بأنواع القراءات، وخلفيّاتها الإيديولوجيّة، التي قُدّمت لمؤلّفات مالك بن نبي؛ وكيف أنّها حالت دون أن تكون هناك مدرسة فكريّة بنبويّة رغم توفّر معالم هذه المدرسة. ويتعلّق بعضها أيضا بمشروع لحوارات فكريّة حول مالك بن نبي تتعرّض للعديد من المسائل والتّساؤلات وتظهر حقائق جديدة. وهناك كذلك مشروع لكتاب حول الصّراع الفكريّ في البلاد العربيّة من منظور مالك بن نبي، خصوصاً ونحن نعيش اليوم أزمات وصراعات في المنطقة لا تبشّر بالخير. أمّا عن الأعمال الجاهزة، فإنّي قد قمت بإنجاز قاموس مرتّب ترتيبا أبجديا وسمته بـ”قاموس مالك بن نبي للحضارة – مفردات وعبارات”. وقد جمعت فيه تحت اللّفظ الواحد كلّ التّعاريف الذي قدّمها صاحب “مشكلات الحضارة” في مواضع وسيّاقات مختلفة من مؤلّفاته مع الإشارة إلى عنوان الكتاب ورقم الصّفحة. وسيصدر القاموس، الذي يعدّ أوّل قاموس يوضع لفكر مالك بن نبي الحضاريّ، قريبا بحول الله عن دار عالم الأفكار. والغاية من وضع هذا القاموس، الذي طال انتظاره وتأخر ظهوره في اعتقادنا رغم عديد التّوصيّات التي كان يخرج بها المحاضرون في شتّى المناسبات، الغاية منه هي تمكين الباحثين، خاصّة الشّباب منهم، من التّزوّد بالمنظومة المفاهيميّة لمشروع مالك بن نبي الفكريّ من خلال تكوين نظرة متكاملة عن “اللّفظ” في كلّ معانيه التي أوردها له صاحبه حسب السّياقات. كتعريف الحضارة مثلا على أنّها “شكل نوعيّ خاصّ بالمجتمعات النّاميّة”، وأنّها “جوهر منظّم”، وأنّها “نتاج فكرة جوهريّة”، و…إلخ، وليس فقط التّعريف المشهور:”الحضارة هي مجموع الشّروط الماديّة والمعنويّة…”.
ولئن كان القاموس موضوعا بالعربيّة، فإنّنا نرغب في أن يكون مزدوج اللّغة في الطّبعات اللّاحقة وهذا حتى يتسنّى مقارنة التّرجمة بالنّص الأصليّ، لأنّ قضية ترجمة مؤلّفات مالك بن نبي قد أثارت ولا تزال تثير بعض النّقاش.
البصائر: يقال أن بن نبي لم يبق وفيا لزوجته الفرنسية بعد زواجه، هل من معلومات عندكم في الموضوع؟ وباعتباركم تعيشون في فرنسا، هل من معلومات عن زوجته خديجة بعدما تزوج بن نبي ثانية؟
محمّد بغداد باي: لست أدري ما هي الجهات التي تروّج لمثل هذه الإشاعات؟! وما هو الغرض منها؟! اللّهم إلّا تشويه سمعة من لم يجدوا ضالتهم في فكره، فكر ظلّ يضايقهم ويقوّض مصالحهم وينسف إيديولوجيّاتهم!
لقد بقي ابن نبي وفيا وإلى أقصى حدّ لزوجه خديجة -بولت فيليبون-فبالرّجوع إلى الدّفاتر التي كان يدوّن فيها يوميّاته نجده يعرب عن شعوره العميق تجاهها ويفكّر في حالها متأثّرا وهي على فراش المرض وهذا عندما كانت الطّائرة التي تقله إلى أمريكا تحلّق في سماء فرنسا في 15 من شهر سبتمبر عام 1971م. فكان يدعو متضرّعا إلى الله سبحانه وتعالى أن يجمعهما قبل رحيل الواحد أو الآخر. وتأسّف لعدم تمكينها من قراءة الجزء الثّاني من “مذكّرات شاهد القرن” الذي يخصّهما معا. وقد استجاب الله دعاءه، فقد قام بزيارة خديجة في مدينة “لويا” في شهر أكتوبر من نفس السّنة ومكث بجوارها أسبوعا كاملا استعادا خلاله ذكريات ماضيهما الآفل. هذا ونجده، عندما نعي له خبر وفاتها -رحمها الله – يحزن، ثمّ يطلب من ابنتيه أن يتوضآ ويصليا على الفقيدة ويدعوان لها بالرّحمة. كما توضّأ هو نفسه وصلّى عليها ودعا المولى -عز وجلّ- أن يتغمّدها برحمته الواسعة ويسكنها فسيح جنانه. وصلى مع أصدقائه وطلبة مسجد الجامعة صلاة الغائب على الفقيدة. وظلّ القرآن بهذه المناسبة يرتّل لوقت طويل بالمسجد.
ومن جهة أخرى، يخبرنا الأستاذ صادق سلّام أنّ مالك بن نبي رغب في إرسال ابنته الصّغيرة رحمة إلى باريس عند خديجة لتؤنسها ولكن زوجته خدوجة حواس -رحمها الله – رفضت.
وللعلم كان ابن نبي يرسل حوالات إلى خديجة من القاهرة ومن الجزائر. كما أنّ المراسلات بينهما لم تنقطع. وهذه المراسلات أو جزء منها مع صور نادرة هي بحوزة الأستاذ صادق سلّام الذي نرجو أن يفيد بها الباحثين الجزائريين. كما نرجو بالمناسبة أن يطلعنا كاتب الدّولة السّابق الأستاذ حمّتو على التّسجيلات الخاصّة بندوات مالك بن نبي التي كان يتردّد عليها.
البصائر: لقد صدر كتاب لبن نبي مؤخرا وسحب من السوق، وهو مكتوب على غير عادة بن نبي وهو “العفن”، ما رأيك فيه؟ لأن هناك من عاتب بن نبي على ثورته الزائدة عن الواقع الجزائري يومها..
محمّد بغداد باي: كتاب “العفن” هو في الحقيقة الجزء الأوّل من “مذكّرات” أو “اعترافات” تغطّي الفترة الممتدّة من 1932 إلى 1940م. وهذا التّاريخ يتوافق مع تاريخ الجزء الثّاني من مذكّرات شاهد القرن (الطّالب) (1930 – 1939م). والكتاب يروي كما يدلّ عليه عنوانه تجربة الكاتب المأساويّة التي عبّر عنها هو نفسه بهذه الكلمات: “لقد شَبِعْتُ لحدِّ التّخمة فأنا كالنّحلة عندما تستبدّ بها الكظّة من عسلها وتستفيض الجني وتدخّر جنيها. للأسف فإنّ “العسل” الذي أضعه بين دفّات هذه الصّفحات مصدره ليس رحيق الزّهور العبق ولكن خلاصة ما يختلج في نفسٍ أريد لها التّحطيم عبر الإكراه الحسيّ والسّم المعنويّ”. ويكفي لتوضيح هذه التّجربة المريرة تأمّل الكلمات التي وضعها كعناوين لفصول الكتاب لإدراك شدّة وعمق ما جاءت لتعبّر به عنه من مثل “العنكبوت”، “… الضحايا”، “الخونة”، “المنبوذ”، إلخ.
ولعل في قصّة الكتاب المخطوط ما يبرّر ما أسميتموه بـ “الثّورة”. فإنّ ما كان يعاني منه ابن نبي من مضايقات شديدة ومطاردات من قبل مراصد الاستعمار التي كان يدير أزرارها خلف السّتار المستشار الخبير لشؤون الأهالي، السّيد “ماسينيون” من جهة، ومن مواقف معادية منكرة ومتنكّرة من قبل من سخرهم الاستعمار من الأهالي لخدمة مصالحه (من الخونة) من جهة ثانية، إنّ وطأة هذه المضايقات على النّفس هي التي جعلت مالك بن نبي في ظروف ما -صيف 1951م- يقْدم على إتلاف المخطوط بعدما سعى في وقت سابق لنشره. والمخطوط الذي أنقذه من الإتلاف شيخان من أعضاء جمعية العلماء المسلمين هما عبد الرّحمن شيبان وإبراهيم مزهودي لم ينشر كما هو معلوم إلّا بعد أزيد من نصف قرن على كتابته. وحتى بعد نشره مبتورا من بعض المقاطع من قبل دار الأمة سنة 2007م، نلاحظ أنّه يسحب من السّوق، ويحاكم مترجمه وناشره!
ربما كان سبب ذاك العتاب هو شجاعة مالك بن نبي الأدبيّة وإخلاصه لقضيّته ممّا جعله لا يتحفّظ في ذكر بعض الأسماء المعروفة آنذاك كعادته. أمّا عمّا وصفتموه بـ”الثّورة الزّائدة” فلا أعتقد أنّها أخطأت في انتقادها لنوعي “العفن”: “عفن الاستعمار” و”عفن الخونة” (القابليّة للاستعمار). ونلاحظ أنّ هذين النّوعين من العفن ما يزالان يلاحقاننا إلى اليوم!
البصائر: هل ترى في بن نبي مدرسة فكرية؟ وإذا كانت ما هي ميزاتها؟ وإذا لم تكن في أي خانة نُصَنف إنتاجه المكتوب خلال نصف قرن؟
محمّد بغداد باي: هذا سؤال يأتي ليتمّم ما سبق ذكره. نعم، فإنّ هناك مدرسة فكريّة بنّبويّة متكاملة المعالم ونوعيّة. ولقد كان مالك بن نبي ذاته على وعيّ بأنّ فكره يشكّل مدرسة. والدّليل على ذلك ما عبّر عنه باللّفظ، أي لفظ مدرسة، في الصّفحة 97 من كتاب “في الحضارة وفي الإيديولوجيا” الذي قمنا بترجمته.
وتكمن ميزات هذه المدرسة النّوعيّة في أصالة منهجها المعتمد في تناول قضايا أو مشكلات المجتمع العربيّ الإسلاميّ. حيث يتّسم هذا المنهج ببعدين: بعد عامّ وبعد خاص.
البعد العامّ يشكّل الإطار العامّ لمعالجة تلك القضايا، ويقوم على ربط مشكلات المجتمع العربيّ الإسلاميّ الرّاهن بنموذجه الحضاريّ الذي تجسّد في التّاريخ.
أمّا البعد الخاصّ فيشمل الأدوات المنهجيّة التي يقارب بها صاحب “مشكلات الحضارة” القضايا المدروسة: بناؤه لجهاز مفاهيميّ ينبع من البيئة الفكريّة والحضاريّة للمجتمع المدروس بكل ما يتميّز به من خصوصيّة. التزامه بالمرحليّة في الطّرح بما تفرضه من مرونة وواقعيّة، والأولويّة في معالجته للقضايا. توظيفه لمناهج متعدّدة من دون الالتزام الدّوغماطيقي ـ إن صحّ التّعبير ـ بفرضيّات وإيديولوجيّات تلك المناهج متى ما تبدّى له عدم تجانسها مع الظّاهرة الأصليّة المدروسة. وهذا ربّما ما يبرّر تهافت الكتابات التي اهتمّت بمحاولة “خندقته” أو تصنيفه في حقل معرفيّ دون غيره أو الحيرة في تصنيفه. أفلا ينمّ هذا التّهافت والتّعدّد والحيرة عن جدّة وأصالة هذا المنهج ومن ثمّ هذه المدرسة؟!
وإذا كانت كلّ مدرسة تعرف بتلامذتها وأتباعها بما يوحي أو يعبّر عن امتداداتها الفكريّة، فهل هناك تلامذة وأتباع لهذه المدرسة؟ وإذا لم يوجدوا، فهل هذا يلغي قيام هذه المدرسة؟
لعل تساؤلنا الأخير يوحي بأنّ لا يوجد أتباع حقيقيّون لمدرسة مالك بن نبي. وهذا يحتّم علينا البحث في معيقات ذلك، والتي هي كما أجمع عليها كثير من الدّارسين: كون فكره كان سابقا لأوانه؛ ومحاصرة من قبل القوميين والإسلاميين وإبقائه على هامش الفعل السّياسيّ، تجاهل منظومته الثّقافيّة من قبل مفكّرين من أمثال سمير أمين وأركون والجابريّ ؛ نشـاط مخابر الصّراع الفكريّ ضدّه؛ تميّز أفكاره ومزاحمتها للخطّ الفكريّ للتّيارات الأخرى المطروحة آنذاك وإلى اليوم…
ونضيف نحن عدم توفّر صفّة الالتزام فيمن يدّعون بأنّهم من أتباعه. فهؤلاء في اعتقادنا أبعد ما يكونون عن الأتباع الحقيقيين الذين لم يستهوهم من أفكار تلك المدرسة إلّا بريقها على حساب جوهرها وما تقتضيه من إلزام كما أراده لها صاحب المدرسة. ومن هنا يكون هؤلاء قد أساؤوا إلى المدرسة بسلوكاتهم وتصرّفاتهم نتيجة الفهم القاصر ذاك.
كلّ هذه الأمور تجعلنا نقع على سرّ فشل قيّام مدرسة مالك بني لحدّ الآن. غير أنّ فشل قيّامها لا يعني عدم قيامها مستقبلا، ما دامت مسوّغات ذلك متوفّرة. فهناك من “الأتباع غير المباشرين”، من قرّاء مجدّين شباب ومن مثّقفين في الجزائر وخارجها من تجاوزوا هؤلاء “الأتباع المباشرين” (المزيّفين) وارتبطوا مباشرة بابن نبي عبر مؤلّفاته، ومن يتجسّد فيهم شرط الالتزام إذ تراهم متمسّكين بمشروعه، يسعون إلى تحقيقه من خلال المبادرات والمساهمات والمجهودات الفعالة كالتي تقوم بها جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين بمناسبة الذّكرى الثّالثة والأربعين لوفاة مالك بن نبي، التي تنظمها هذا الأسبوع، يوم الإثنين 31 أكتوبر 2016م، بمناسبة ذكرى وفاته، والتي تضم قائمة متميّزة من المحاضرين.
وصفوة القول، كما قال عالم الاجتماع الجزائريّ المرحوم عبد القادر جغلول: “أنّ فكر مالك بن نبي يمثّل البديل الوحيد المتاح أمام العالم الإسلاميّ” اليوم.
البصائر: هل بقي شيء في فرنسا يذكّر ببن نبي، بيته.. أصدقاؤه إن كان له أصدقاء.. جيران.. خاصة في “درو” التي قد يوجد من يعرفه..؟
محمّد بغداد باي: للأسف البيت هدّم. وقد كانت هناك مساعِ قام بها كلّ من الأخوين رشيد وعمر بن عيسى، وعبد الرّحمن بن عمارة، وصادق سلّام لاقتناء البيت المتواجد بـ”درو”، ولكنّهم لم يفلحوا في نهاية المطاف ولا نعلم لماذا؟! أمّا عن مركز وحدة الشّباب المسيحي الواقع في شارع تريفيز الدّائرة 14 بباريس الذي كان ابن نبي يتردّد عليه فقد حُوّل وأُغلق. والشّيخ المسيحيّ الذي كان يدير المركز في التّسعينيّات من القرن الماضي والذي يعدّ آخر من بقي على قيد الحياة ممّن يكونوا قد عرفوا ربّما ابن نبي يكون قد مات الآن خصوصا وأن المركز لم يعد موجودا في ذلك العنوان. وأمّا عن مركز مارسيليا الذي كان ابن نبي يعطي فيه دروسا في محو الأميّة للعمال الجزائريين، فإنّ بعض الغيورين الجزائريين في ديار الهجرة سعوا للاتّصال بالجهات الرّسميّة والقنصليّة الجزائريّة بمرسيليا لمفاتحة كاتب الدّولة للهجرة، آنذاك السّيد بلقاسم ساحلي زعيم حزب التّحالف الوطنيّ الجمهوريّ لعرض عليه فكرة شراء المركز بغية تحويله إلى مركز ثقافي جزائريّ، ولا نملك تفاصيل أخرى حول الموضوع. هذا ما في حوزتنا إلى الآن عن الأماكن والأشخاص. ونريد بالمناسبة أن نذكر بأنّ “جمعيّة حميدالله”، الدّاعية الهنديّ الكبير -رحمه الله- وهي جمعيّة طلابيّة ثقافيّة تنشط بباريس كانت قد نظّمت يوما دراسيا تكريميّا بتاريخ 17 ديسمبر 2005م، للمثقّفين المسلمين الذين كانت لهم إسهامات فكريّة في فرنسا. وقد خُصّصت المحاضرات الأولى لمالك بن نبي وفكره، وكنت يومها قد قدّمت مداخلة إلى جانب مداخلة السّيدة رحمة بن نبي، ابنة الأستاذ مالك -رحمه الله- تحدّثت فيها عن أبيها. وقد قام السّيد نور الدّين بوكروح بترجمة مداخلتها هذه.
البصائر: علمنا أن هناك ثانوية تحمل اسم مالك بن نبي، هل تعرفون عنها شيئا؟ ومن وراء التسمية ولماذا؟
محمّد بغداد باي: بالفعل يوجد بباريس مدرسة بمستوياتها الثّلاثة (ابتدائيّ، متوسّط، ثانويّ) تسمّى باسم مالك بن نبي، وهي مدرسة تابعة في برامجها لوزارة التّربيّة الوطنيّة، تمّ افتتاحها في شهر أكتوبر من عام 2001م بالدّائرة السّادسة عشر الباريسيّة. ولكن اعتماد التّسمية الرّسميّ كان في اليوم الثّالث من شهر نوفمبر عام 2005م (وهي المناسبة التي اجتمعت فيها ذكرى وفاة مالك بن نبي، وذكرى الفاتح من نوفمبر، وعيد الفطر المبارك) من قِبل وزير خارجيّة الجزائر الأسبق السّيد محمّد بجاوي الذي ألقى بالمناسبة كلمة مطوّلة أشاد فيها بخصال الرّجل وإبداعاته الفكريّة في تشخيصاته لأمراض إنسان ما بعد الموحدّين التي تتصدّرها “القابليّة للاستعمار”، وفي تحليلاته العميقة التي تحدّثت عن العالميّة وليس العولمة، وفي طروحاته التي تعانق الإنسانيّة في مصيرها؛ كما توقّف عند نضاله على جبهة الصّراع الفكريّ الذي استغلّه الاستعمار لطمس معالم الشّخصيّة الجزائريّة بالتّقتيل والتفقير والتجّهيل والتّهجير والتّفريق والتّنصير، وبكلّ ما من شأنه أن يقلّل من شأن وقيمة الذّات الجزائريّة المسلمة. فبيّن السّيد بجاوي كيف أنّ مالك بن نبي في تلك الظّروف الحالكة من تاريخ الجزائر استطاع بفضل مؤلّفه “الظّاهرة القرآنيّة” ـ الذي كان يتناقله الأفراد فيما بينهم خلسة كما يقول المخاطِب ـ أن ينعش روح الجزائريين وخصوصا الشّباب منهم ويبعث فيهم الأمل والاعتزاز بالذّات، لأنّ “كتابه كان يمثّل حصنا منيعا ضدّ محاولات المسخ التي كان يتعرّض لها بلا هوادة الشّعب الجزائريّ”، بحسب السّيد بجاوي.
ومن صنيع الأقدار أنّه قبل تسميّة المدرسة تمّ اجتماع تناقش فيه المدير مع هيئة التّدريس حول التّسميّة. وبينما تمّ التّركيز والمفاضلة بين القديس أوغسطين وفرانز فانون، حزّ في نفسي ـ باعتباري عضوا في هيئة التّدريس ـ عدم اقتراح اسم عربيّ مسلم وقلت حينها: لِمَ لا يكون مالك بن نبي؟! وذات يوم، وبعد انقضاء أزيد من سنتين، اتّصل بي مدير المدرسة، لمّا علم باهتمامي بفكر مالك بن نبي، ليبلغني بأنّه تمّ اختيار مالك بن نبي، من قبل رئاسة الجمهوريّة، اسما لمدرستنا، طالبا مني إعداد مداخلة للتعريف بشخصيّة مالك بن نبي وفكره، وذلك بمناسبة اعتماد التّسمية. فتلقّيت النّبأ بفرح بالغ وحمدت المولى تعالى على استجابته لأمنيّتي الدّفينة. ورحت أعدُّ المداخلة وأنظّم معها معرضا لمؤلّفات مالك بن نبي وما كتب حوله من دراسات وأبحاث، وأزيّن المعرض بما كنت أملكه من صّور فوتوغرافيّة تبرز محطات هامّة من حياته.
وما تجدر الإشارة إليه أنّ عددا من الحضور في ذلك اليوم لم يستسغ إطلاق اسم مالك بن نبي على المدرسة.
البصائر: من الناس من يقول أن بن نبي ليس له إضافة في الفكر الإسلامي أو الإنساني ما تعليقكم على مثل هذا القول؟
محمّد بغداد باي: في تقديري أنّ الإجابة عن هذا السّؤال متضمنّة في إجابات سابقة بإسهاب، فلا معنى للإعادة.
سيرة ذاتيّة مختصرة
الدكتور محمد بغداد باي
– الدّكتور محمّد بغداد باي (باحث جزائري مهتم بفكر مالك بن نبي.)
– الوظيفة: أستاذ الفلسفة بالمدرسة الدّوليّة الجزائريّة بباريس- مالك بن نبي
– أهم المنشورات:
• التربية والحضارة: بحث في مفهوم التّربيّة وطبيعة علاقتها بالحضارة في تصوّر مالك بن نبي (كتاب)
• في الحضارة والإيديولوجيا (ترجمة)- (كتاب)
– أعمال قيد الإنجاز:
• مالك بن نبي وقراؤه (دراسة)
• قاموس مالك بن نبي للحضارة: مفردات وعبارات. (كتاب)