مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
نشاطات الجمعية

عودة إلى موقف جمعية العلماء المسلمين من ثورة الفاتح نوفمبر 1954 – عبد الحميد عبدوس

أطلعت على مذكرات المجاهدة زهرة ظريف بيطاط إحدى بطلات الثورة الجزائرية ،ورمز من رموز “معركة الجزائر” إلى جانب محمد العربي بن مهيدي، وياسف سعدي، وعلي عمار( المدعو علي لابوانت) ،وجميلة بوحيرد، وحسيبة بن بوعلي، وعبد الرحمن طالب، وجميلة بوعزة ،وسامية لخضاري، … وغيرهم من الشهداء والشهيدات والمجاهدين والمجاهدات الذين واجهوا جبروت المحتل الفرنسي بشجاعة وإيمان أذهلا العالم، ومازالا يشكلان مفخرة ونموذج للشعوب المقاومة ،بالإضافة إلى كونها زوجة المجاهد الراحل رابح بيطاط أحد مفجري ثورة نوفمبر.
وعندما وصلت إلى الصفحة 70 من كتابها الصادر سنة 2014 عن منشورات الشهاب تحت عنوان ( مذكرات مجاهدة من جيش التحرير الوطني ـ المنظمة الخاصة) شعرت بالانقباض والدهشة من قولها : ” …ذات يوم، وكنا في نهاية الأسبوع ، عاد والد سامية وبيده بيان جمعية العلماء المسلمين الذي يندد فيه بوضوح لا يقبل النقض بإعلان الحرب التحريرية وبرجالها، قرا البيان وشرحه لنا ربما كان غرضه ان يحمينا من إمكانية اختيار حقل النوفمبريين وأن يجعل في عيوننا بديل جمعية العلماء ” أكثر واقعية” واقل خطورة ، وبالأخص تهدئة حماسنا الذي لم نخفه يوما، سامية وأنا لصالح حرب التحرير منذ اندلاعها ..”
إن هذا الرأي الذي أوردته نائبة رئيس مجلس الأمة السابقة في مذكراتها يندرج في إطار الرواية الاختزالية و التشويهية لموقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من الثورة الجزائرية الذي ساهمت ومازات تساهم في تسويقه أقلام من داخل الجزائر ومن خارجها يجمع بينها العداء الإيديولوجي لفكر ومواقف وتوجهات جمعية المسلمين.
وقبل فترة زمنية كنتُ قد قرأت مقالا للكاتب التونسي رياض الصيداوي، يتعرض فيه إلى تصنيف موقف الحركات الوطنية الجزائرية من ثورة الفاتح نوفمبر 1954، وحكم على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأن ” موقفها لم يكن موقفا شجاعا في بدايته، وكان متخاذلا ضد ثوار نوفمبر…”
هذا الكلام الشاذ والمغشوش المنشور في موقع الالكتروني العراقي “الحوار المتمدن” للكاتب التونسي رياض صيداوي أعادت صحيفة جزائرية نشره حرفيا، وكأنه حقيقة تاريخية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
لقد كانت ثورة الفاتح نوفمبر العظيمة ملحمة بطولية ستظل مضرب المثل في كل العالم على عزيمة الشعب الجزائري على تحطيم النظام الاستعماري واسترجاع الاستقلال، ولكن مثقفينا لم يقوموا بالجهد والعمل اللازمين لتحرير تاريخنا الوطني من التزييف والتشويه، ومن سموم الحرب الثقافية الرامية إلى تخريب ذاكرة الشعب الجزائري وتفكيك وحدته الوطنية ومسخ شخصيته الحضارية.
وفي هذا السياق ،كنت قد استمعت على سبيل المثال ـ قبل سنوات خلت ـ إلى شهادة المجاهد الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين –رحمه الله – عن موقف الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – من الكفاح المسلح ومضمونها أن أحد رفقاء الشيخ ابن باديس هو الشيخ عبد الرحمن بن بيبي (لقبه الحقيقي يحي الشريف) أخبره أن الإمام ابن باديس زاره في مدينة سطيف وسأله إن كان هناك رجال في سطيف، فأجابه قائلا: الرجال كثيرون فماذا تطلب يا شيخ؟ قال الإمام : أريد رجلا يكون مستعدا عندما يحين الوقت لإلقاء قنبلة في مطار عين أرنات العسكري. ”
وهذه الشهادة ذكرتني بما كنت قد قرأته في مقال مفتي الجزائر ورئيس علمائها الأسبق العلامة المجاهد الشيخ أحمد حماني – رحمه الله – فقد نشر في مجلة الرسالة سنة 1981 مقالا يعتبر إسنادا لما ذكره الشيخ شيبان في شهادته، إذ يقول الشيخ حماني في مقاله: ((…ومما سمعته بأذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939 في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة وتطرق الحديث إلى موضوع الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا – إجباريا أو تطوعا- في صفوف الجيش الفرنسي وكان الشيخ – رحمه الله- متألما جدا من هذا الضعف فيهم وقد صرح بما فحواه:” لو أنهم استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال الأوراس وإعلان الثورة المسلحة”.
ويضيف الشيخ أحمد حماني”… سافرت إلى تونس لإتمام الدراسة ولم أحضر تطور هذه الفكرة الباديسية في نفسه ولكني علمت أنها وصلت إلى حد الإنجاز لولا معاجلة الموت، فقد حدث الأستاذ حمزة بوكوشة – وهو أقرب المقربين إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس والعاملين معه في ميادين العلم والإصلاح والسياسة – أنه دعاه ذات يوم للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة وحدد له تاريخ إعلانه بدخول إيطاليا الحرب بجانب ألمانيا ضد فرنسا بما يحقق هزيمتها السريعة فبايعه على ذلك، وكان بالمجلس غير الأستاذ حمزة منهم من تردد ومنهم من أقدم على المبايعة، وقد أكد الشيخ محمد بن الصادق جلولي هذه الرواية ودعمها، لكن المنية أدركت ابن باديس قبل إعلان الثورة بخمسين يوما، فقد مات في 16 أفريل 1940، ودخلت إيطاليا الحرب في 10 جوان 1940″.
ويواصل المرحوم الشيخ أحمد حماني شهادته التاريخية في مقاله المشار إليه آنفا “..حدثني الأستاذ محمد الصالح بن عتيق مدير مدرسة الميلية أنه طرق عليه الباب ذات يوم ففتحه، وإذا به يجد الشيخ متنكرا فدعاه إلى النزول فاعتذر وأنه حدثه عن الثورة المسلحة وعن مدى استعداد الشعب في جبال الميلية، قال فأجبته بأن الميلية فيها وفي جبالها “رجال بارود” وله أن يعول عليهم إذا جد الجد وأن الاستعداد النفسي للثورة كامل فيهم”
ويقول أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس أيضا أنه أقسم أمام بعض خلصائه قائلا: ” والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقني على إعلان الجهاد لأعلنته”
ولكن الله تعالى لم يأذن باشتعال شرارة الثورة المباركة إلا بعد 14 سنة من وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس – عليه رحمة الله ورضوانه -.
ولا أعتقد أن هناك عاقلا منصفا هدفه الوصول إلى الحقيقة التاريخية، يسمح لنفسه بأن يقدم تقولات كاتب تونسي على شهادة عالمين جزائريين يشهد لهما داخل الجزائر وخارجها بصدق الجهاد والاستقامة الخلقية والدينية وسعة العلم مثل الشيخ أحمد حماني والشيخ عبد الرحمن شيبان – رحمهما الله – عن عزم إمام النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس على إعلان الثورة المسلحة ضد المحتل الفرنسي، وهو الذي عمل طوال سنوات عمره القصير والمبارك على تهيئة أرضية الثورة بالتعليم ونشر الوعي الذي حافظ على الشخصية الجزائرية، وكون جيشا من الشباب أصبحوا بعد اندلاع الثورة من عناصر وإطارات وقيادات الثورة المسلحة.
ولعل هذا ما أكده تقرير ضابط المخابرات الفرنسي الكومندان “جاك كاري” المختص في الشؤون السياسية بالولاية العامة الفرنسية بالجزائر، عندما قال في تقريره عن اندلاع الثورة “…قد لا تكون جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على إطلاع على القرار السري لإعلان التمرد في أول نوفمبر 1954 ولكنها هي التي مهدت له الأرضية وكونت إطاراته اللازمة”
ومن المؤكد أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت أول التنظيمات الوطنية التي أعلنت عن مساندة الكفاح الجزائري في بيان وقعه رئيسها العلامة المرحوم محمد البشير الإبراهيمي ومساعده الأول العلامة الفضيل الورتلاني ـ عليهما رحمة الله ـ في القاهرة في 15 نوفمبر 1954 وهو منشور في كتاب العلامة الفضيل الورتلاني (الجزائر الثائرة) الصادر سنة 1956. فلماذا لم تطلع المجاهدة زهرة ظريف بيطاط على هذا البيان لجمعية العلماء المنشور ولم تستشهد به في مذكراتها الصادرة بعد 58سنة كاملة من نشر كتاب الشيخ الورتيلاني؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى