معالجـات إسلاميــــة :إِلاَّ تَنصُـــرُوهُ فَقَـــدْ نَصَــــرَهُ اللّهُ
بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة – وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق / خطيـب المسـجد الأقصــى المبارك
www.yousefsalama.com
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد :
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1).
تعيش أمتنا الإسلامية في هذه الأيام أعظم الذكريات النبوية المجيدة، التي كان لها أبلغ الأثر في تغيير مجرى التاريخ، وهداية الإنسانية إلى الخير، واندحار قوى الشر والجاهلية، وانتصار كلمة الحق.
إنها ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وهجرة أصحابه – رضي الله عنهم أجمعين- الذين لبوا نداء الإيمان، فخرجوا من ديارهم وضحوا بأموالهم، لا يحملون بين جوانحهم إلا الإيمان بالله ورسوله، وما قصة صهيب-رضي الله عنه- عنا ببعيد؟! .
وقد ذكر الشيخ الصابوني في كتابه (صفوة التفاسير) في تفسير الآية السابقة:[{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} أي إن لا تنصروا رسوله فإن الله ناصره وحافظه، وجواب الشرط محذوف تقديره : فسينصره الله، دل عليه قوله :{فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}والمعنى: إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي حين خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة، وأسند إخراجه إلى الكفار لأنهم ألجئوه إلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطر إلى الهجرة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين لا ثالث لهما هو أبو بكر الصديق{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال “بينا أنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا، فقلت يا رسول الله : لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا ،فقال يا أبا بكر : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟” ، وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} أي قواه بجنود من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار، لم تروها أنتم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} أي وكلمة التوحيد “لا إله إلا الله” هي الغالبة الظاهرة، أعز الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين{وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة](2).
إن الهجرة لم تكن هجراً للأوطان، وإنما كانت تهيئة لاستعادة الأوطان، ومن المعلوم أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم – ولد في مكة المكرمة، وكانت مكة وطناً حبيباً إليه، وإن في قلبه من مفارقتها لحسرة وألماً، فعندما ألقى – عليه الصلاة والسلام – نظرة الوداع على مكة المكرمة وهو مهاجر منها قال كلمته الخالدة: (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)(3).
وتعد الهجرة النبوية المباركة من أهم أحداث السيرة النبوية الشريفة، وهي جديرة بأن نتعلم منها الدروس ونأخذ منها العبر والعظات .
بناء المسجد
لقد كان أول عمل قام به النبي – صلى الله عليه وسلم- بعد أن استقر به المقام في المدينة المنورة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، أنه أمر ببناء مسجد حيث بركت ناقته، وفي مدة وجيزة والحمد لله تم بناء المسجد، المسجد الأول في المدينة المنورة، والذي كان من أهم المساجد في تاريخ الدنيا كلها، حيث أُسست فيه خير أمة أخرجت للناس ، فكان هذا المسجد بيتاً للعبادة والصلاة ، ومدرسة للتوجيه والإرشاد،ومكاناً لعقد المعاهدات واستقبال الوفود ومجلساً للشورى،ومحكمة للقضاء، ومنه انطلقت جحافل الإيمان، تنشر الحق والعدل والفضيلة في الآفاق، وتقيم أسس الحضارة والمدنية في كل مكان.
ومن المعلوم أن المساجد هي خير بقاع الأرض على الإطلاق، وأحب البقاع إلى الله ، وهي بيوته التي فيها يُعبد، لقوله– صلى الله عليه وسلم – : (أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ تعالى مَسَاجِدُهَا)(4).
وقد أمر الله- سبحانه وتعالى- ببنائها وعمارتها وتطهيرها، وجعل الخير الجزيل لمن يبنيها، ووعده على ذلك بجنة عرضها السموات والأرض، لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا قَدْرَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(5)، ومن المعلوم أن رسالة المسجد في الإسلام عبر التاريخ هي رسالة الوحدة والمحبة وجمع شمل الأمة، فقد ذكر الشيخ/ محمد الغزالي- رحمه الله- في كتابه خلق المسلم، أن المصلين اختلفوا في صلاة التراويح، هل هي ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟ فقال بعضهم: بأنها ثماني ركعات، وقال آخرون: بأنها عشرون ركعة، وتعصب كل فريق لرأيه، وكادت أن تحدث فتنه، ثم اتفق الجميع على أن يستفتوا عالما في هذه القضية، فسألوه عن رأيه في الأمر، فنظر الشيخ بذكائه فعرف ما في نفوسهم، وهو أن كل طرف يريد كلمة منه، فقال الشيخ مستعينا بفقهه: الرأي أن يُغلق المسجد بعد صلاة العشاء (الفريضة ) فلا تصلى فيه تراويح البتة، قالوا: ولماذا أيها الشيخ؟!، قال: لأن صلاة التراويح نافلة (سنة) ووحدة المسلمين فريضة، فلا بارك الله في سنة هدمت فريضة.
في خيمة أم معبد
ذكرت كتب السيرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه قد خرجا من الغار، بعد أن مكثا فيه ثلاثة أيام، ثم استأنفا سيرهما إلى المدينة المنورة، وأدركهما عطش شديد، فمرا بخيمة عندها امرأة يقال لها: أُمّ معبد، فسألها – صلى الله عليه وسلم- : هل عندها شيءٌ من زاد أو ماء؟ فقالت: والله لو كان عندي شيءٌ ما أعوزناكم للسؤال، وإن الشاءَ في المرعى، فنظر إلى شاة في كِسْر البيت، فقال: ما هذه الشاة يا أمَّ معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجَهْد عن المرعى، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أَجْهَد من ذلك، قال: أتأذنين لي بحلبها؟ قالت: فداك أبي وأمي أن رأيتَ بها حَلْباً فاحلُبها، فمسح – صلى الله عليه وسلم – بيده على ضَرْعها، وسمَّى الله ودعا، فامتلأ الضرع، ودرَّ اللبن، فدعا بإناء فحلب فيه حتى ملأه، ثم سقى أم معبد وسقى أصحابه، وشرب هو حتى ارتوى، ثم حلب فيه ثانياً، وقام وارتحل عنها هو وأصحابه.
وبعد لحظات عاد أبو معبد إلى بيته، فرأى اللبن، ودار بينه وبين زوجته حوار عن نبينا – صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو معبد بعد أن استمع إلى صفات النبي- صلى الله عليه وسلم – كما وصفتها زوجه، والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكرو ، لقد هممتُ أن أصحبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلا، وقد ذكر الإمام ابن القيم الجوزية في الجزء الثاني من كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد هذه القصة بالتفصيل.
الأخوة الصادقة
ذكرت كتب السيرة أن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، هذه المؤاخاة التي كانت وما تزال مضرب الأمثال في التاريخ، والتي كانت نقطة الضوء التي لا تنطفئ، بل ستظل ساطعة مدى الحياة، ففي هذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نرى مظهراً من مظاهر عدالة الإسلام، فالمهاجرون قوم تركوا كلَّ ما يملكون في سبيل الله، والأنصار قوم أغنياء، فكان أن حمل الأخ أخاه، واقتسم معه سراء الحياة وضراءها، وأنزله في بيته، وأعطاه شطر ماله، فيا لها من أخوة عظيمة لا مثيل لها.
لقد أثنى الله على الأنصار في قوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(6)، كما أثنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم ثناءً عظيماً بعد ثناء الله عليهم فقال: ( لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ) (7) ، وقال أيضاً: (لَوْ سَلَكَتْ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ) (8).
هذا هو المجتمع الإسلامي الأول، مجتمع التراحم والتكافل والتعاضد يا أمة الإسلام، فأين نحن اليوم من هذه المواقف الإيمانية؟!!
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش :
1- سورة التوبة الآية (40).
2-صفوة التفاسير للصابوني1/536.
3- أخرجه الترمذي.
4- أخرجه مسلم.
5- أخرجه الطبراني وابن حبان.
6- سورة الحشر الآية(9).
7- أخرجه البخاري.
8- أخرجه البخاري.