العاميَّة الجزائريَّـة فـي لـسان الـعرب العامِّيَّة الجزائريَّة وجدل التَّاريخ (الحلقة الأولى)
الأستاذ: باسم بلّام
أستاذ الأدب الحديث والمعاصر / جامعة الأمير عبد القادر – قسنطينة
لم تكن العربيَّة في جاهليَّتها لغةً للعلم والحضارة، ولا لسانًا للفلسفة الإنسانيَّة العميقة، سواءٌ أكانت شرقيَّةً أم غربيَّةً، وإنَّما هي لغةٌ لقومٍ نأت بهم الصَّحراءُ عن مخالطة بني الحمراء، وأوغلت بهم في العزلة والانكفاء على الذَّات، ولا حديثَ عن الحِيرَةِ أو دولةِ الغَساسنة في الشَّمال، ولا عن حضارة اليمن في الجنوب، إذ إعطاءُ الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص، وإنَّما الحديث عن لغة اضطربت بها ألسنة النَّاس فيما بين الجهتين من بوادي العرب، بَوادٍ لا تطويها إلا حُدَاةُ الإبل مترنِّمةً بديوان العرب وسجلِّ مآثرهم، هو الشِّعرُ المرويُّ جيلًا عن جيلٍ، وما كالشَّعر يصلح أداةً لإثراء اللُّغة في ألفاظها وأساليبها؟، إنَّه ملهِبُ المشاعر، يَستفزُّها في رقَّتها وعذوبتها، ويَستنفرُهَا في غضبتها وشدَّتها، ويُهدهِدُهَا في حكمتها وسكونها، متمشِّياً معها في مدارج النَّفس العربيَّة علوًّا وسُفلاً، حتَّى استوت كأحسن ما تستوي لغةٌ على ألسنة النَّاس، وصارت مفخرَ المـُحكِمِ أفانينها البديعة، فإن كان شاعرًا، فإنَّ له في القبيلة مكانًا عليًّا، وإن كان خطيباً، فهو صدرُ المحافل والمجامع.
وتوالت الأجيال، وصارت العربيَّة إلى كتابٍ حفظها من عوادي الدَّهر، هذا الَّذي غيَّب لغاتٍ كانت أقوى منها سلطاناً، وأعظم شأناً، وإنَّما قويت العربيَّة بهذا الكتاب المعجز، فخلَّدها بعد أن كانت مستضعفة في الأرض، وأقام لها سلطنةً من حبِّ النَّاس وتَهافُتهم على خطبة ودِّها، علَّها تهديهم إلى إقامة دينهم العظيم كما أراد ربُّ العالمين.
وكان من مناطق سلطان العربيَّة بلاد المغرب، فبعد فتوح المسلمين البطوليَّة، استكانت نفوس الأمازيغ لأمر هذا الدِّين الجديد، فما وجدوا فيه من رحمةٍ وعدلٍ عجَّل بدخولهم أفواجًا تحت سلطانه، ومن ارتضى الإسلام دينًا أحبَّ العربيَّة لغةً، وسعى في تحصيلها، فألفينا الأمازيغَ ولم يطل بهم الزَّمن إلاَّ وقد تحمَّلوا الأمانة في نشر دين الإسلام، واستقامت لكثيرٍ منهم العربيَّة كأحسن ما تستقيم لأهلها، وإن بقي اللِّسان الغالب لسان أهل البلد (الأمازيغيَّة)، حتَّى كان أمرٌ خطيرٌ غيَّر التَّاريخ واللُّغة، وكثيرًا من شؤون بلاد المغرب.
في القرن الخامس الهجريِّ (ق05هـ) انتقلت قبائل بني هلال وبني سليم إلى المغرب الإسلاميِّ، وكان انتقالهم مؤذنًا بتحوُّلٍ عميقٍ في المجتمع، والسَّبب هو أنَّ هذه الموجة من الهجرات البشريَّة إلى هذه المنطقة ليست كسابقاتها، فعدد المهاجرين لا يقلُّ عن مائتي ألف نسمةٍ في أضعف تقديرٍ، وقد يصل إلى المليون في تقديراتٍ أخرى، فكان أن غلب العنصر الهلاليُّ بكثرته وشدَّته. لقد كانوا قومًا بُداةً، لا يستسيغون حضارةً، ولا يأنسون بعمرانٍ، وإنَّما همُّهم الارتحال، وطلب الماء والكلأ، وتروي كتب التَّاريخ أنَّهم عاثوا فسادًا في الأرض([1])، إلاَّ أنَّ لهم فضيلةً جُعلت في صحائف مفاخرهم، وهي أنَّهم عرَّبوا المغرب إلى الأبد، ووطَّدوا الحكم للعربيَّة لغةً في مخاطبات النَّاس، يقول العلَّامةُ اللُّغويُّ الإمامُ الإبراهيميُّ:”…فلمَّا جاءت الغارة الهلاليَّة كانت هي المعرِّبة الحقيقيَّة للشَّمال الإفريقيِّ، وجباله، وقراه، وخيامه”([2]).
ولكنَّ بهاء العربيَّة وحَلْيَها قد بدأ يخبو وَهجُه، ويَغيض ماؤُه، إذ صارت قوانينها -في المجمل- توابيتَ لا روح فيها، ولا حياة لها، ولعلَّ الإعراب كان أوَّل هذه القوانين المغتالة، ومرَّت القرون وقد استحالت العربيَّة الفصيحة إلى عربيَّةٍ دارجةٍ، وليدٌ مشوَّهٌ هجينٌ، لتنزوي الفصيحة إلى مضائق من الاستخدامات النُّخبويَّة، إمَّا لغة لأهل العلم والأدب، وإمَّا وسيلة للتَّخاطب الرِّساليِّ الدِّيوانيِّ، وأسباب هذا التَّحوُّل عديدةٌ، منها:
1- غلبة العربيَّة وهيمنتها على ألسنة أهل المغرب لا يعني أنَّها كانت بمنأًى عن تأثير اللُّغة الأصليَّة للمغاربة الأمازيغ، حتَّى إنَّ بعضهم زعم أنَّ “…الهلاليِّين إنَّما فسد لسانهم بالجزائر لاختلاطهم بالبربر، وشهد لذلك أنَّنا نرى اليوم عرب الصَّحراء القليلي الاختلاط بغيرهم أصحَّ عربيَّةً، وأقومَ مخارجَ حروفٍ، وعرب السَّواحل المغمورين بالبربر أفسدَ نطقًا للحروف، وأَردَى لغةً…”([3])
2- انحسار العربيَّة الفصيحة أسهمت فيه -أثناء حكم العثمانيِّين- سياسة التَّتريك المنتهجة من قبل السُّلطة، فنافست التُّركيَّةُ العربيَّةَ، وتطعَّمت الدَّارجةُ بكثيرٍ من الألفاظ التُّركيَّة، وكما قيل: “النَّاس على دين ملوكهم”، وقد انبرى العلَّامة الدُّكتور محمَّد بن أبي شنب لإحصاء هذه الألفاظ، فأخرج تأليفاً مستقلاًّ في الباب.
3- الحرب الَّتي شنَّتها فرنسا الاستدماريَّة على العربيَّة، وعلى المدافعين عنها في الجزائر خصوصًا، يقينًا منها أنَّ هذه اللُّغة جامعةٌ للرَّحم الجزائريَّة، فقد خدمها الأمازيغ أكثر ممَّا خدمها العرب، وابنُ معطٍ الزَّواويُّ خير شاهدٍ، فلجأت فرنسا بدهاقنة الاستشراق، وأئمَّة التَّضليل العلميِّ إلى إثارة الفتنة اللُّغويَّة بين الأختين، ونفخت في بوق الحميَّة الجاهليَّة، وكان ما كان من دعاوى العاطلين المبطلين، ممَّن يُخفون حسوًا في ارتغاءٍ، الَّذين لا همَّ لهم سوى الاسترزاق على فُتات الأفكار الاستشراقيَّة المغرضة، فزعموا العربيَّة غريبةً وهي في دارها.
4- التَّعثُّر الَّذي شهدته حركة التَّعريب في الجزائر، فعلى أنَّ قوانين الدَّولة، بل ودستورُها يُثمِّن قيمة العربيَّة كمقوِّمٍ أساسيٍّ من مقوِّمات الهويَّة الوطنيَّة الجزائريَّة، إلاَّ أنَّ العربيَّة يُكاد لها بطريقةٍ أو بأخرى من قبل خفافيش الظَّلام، والَّتي لا تعمل إلاَّ في زوايا العتَمةِ، ومن وراء الحُجب، معرقلةً بذلك اندفاع حركة التَّعريب إلى الأمام، ومشاهدُ المسرحيَّة التَّراجيديَّة لا تزال موصولة الحلقات، حتَّى يشاء الله أمرًا غير ما أرادت زمرة المتغرِّبين.
إنَّ هذا الَّذي ذُكر من عوامل انقباض العربيَّة الفصيحة على ألسنة النَّاس، لم يقطع صلتَهم بها، فالدَّارجة الجزائريَّة -في أغلبها- عربيَّةٌ فصيحةٌ، قد تحوَّلت في نطقها أو تركيبها، ومن راقب الأجداد فينا وقع في مخاطباتهم على ما لا يُتصَوَّر أنَّه عربيٌّ، حتَّى ليصاب المرء بالدَّهشة لـمَّا يجد أنَّ بعض كلامهم هو من العربيَّة بمكانٍ عالٍ، وكأنَّما هو من عربيَّة البداة المناطيق، أصحاب اللَّسن والبلاغة، وهذا ما يتأكَّد بما ذكره الأستاذ الكبير أحمد توفيق المدنيُّ في كتابه (كتاب الجزائر)، إذ يقول: «أمَّا اللُّغة العامِّيَّة الدَّارجة، فيجب علينا أن نعيد هنا القول بأنَّ العربيَّة العامِّيَّة الموجودة بشمال إفريقيا عمومًا، وخاصَّةً في الهضاب العليا والصَّحراء الجزائريَّة…، هي أفصح لغةٍ عربيَّةٍ عامِّيَّةٍ موجودةٍ على وجه الأرض؛ لأنَّ أغلب عباراتها (نحو 98 في المائة) هي عباراتٌ فصيحةٌ قرآنيَّةٌ…، بل إنِّي أستطيع أن أؤكِّد بأنَّ العربيَّة العامِّيَّة في بلادنا هي أفصح كثيرًا وأقرب إلى لغة القرآن من العامِّيَّة الَّتي يتكلَّمونها في اليمن، وحتَّى في كثير من أنحاء الحجاز…»([4])، وقد حدث لي من ذلك مواقفُ كثيرةٌ، أذكر ثلاثةً منها، وفيها مَقنَعٌ لمن أراد أن يتفهَّم الغرض من ذكرها:
الموقف الأوَّل: ما أكثر حديثَ جدَّتي لأبي -رحمها الله-، وهي من سكَّان الرِّيف، بألفاظٍ غريبةٍ على أسماعنا نحن أهلَ المدن، ومن ذلك لفظةُ (زبرج)، فلمَّا عُدت إلى القاموس وجدتُها تعني (نظَّف)، وهو الاستخدام نفسُه في الدَّارجة.
الموقف الثَّاني: بينما أقرأ كتاب (المتنبِّي) للأديب محمود محمَّد شاكر، إذا بي أصدم من جهة معرفتي بأمرٍ كنتُ أجهله سابقًا، وهو أنَّ بعض الولد بعد أن تضعَه أمُّه يخرج منه برازٌ ممَّا كان يتغذَّاه وهو في بطن أمِّه، فاستغربتُ الأمر وسألتُ والدتي، فأكَّدت لي الخبرَ، وأفادتني أنَّ هذا البراز يسمَّى (لَعْقَى)، وهو اللَّفظ ذاتُه الموجود في كتاب (المتنبِّي) لشاكر، فازداد عجبي من حفاظ العامِّيَّة على مثل هذه الألفاظ الفصيحة.
الموقف الثَّالث: تناولتُ يومًا كتاب مصطفى صادق الرَّافعيِّ (على السَّفُّود)، فنطقتُ بلفظ العنوانِ أمام والدتي، فطلَبتْ منِّي أن أعيد ما قلتُ، فلمَّا أعدتُ العبارةَ، أفادتني أنَّ (السَّفُّود) كلمة يستخدمونها قديمًا للدَّلالة على آلةٍ من حديدٍ يحرِّكون بها أحجارَ الكانون (الموقد)، وهذا المعنى يكاد يُطابق ما في الفصيحة بعد أن تثبتُّ من ذلك بالعودة إلى القاموس.
ومرَّةً بعد مرَّةٍ تتأكَّد هذه الحقيقة عندي، فاستغربتُ كيف نُرمَى –نحن الجزائريِّين– بأنَّنا أوغلُ الشُّعوبِ العربيَّة في العُجمة، فيقول الرَّافعيُّ وقد أنزل مقالةً لابن خلدون غير منزلتها: “ولهذا السَّبب عينه تتبيَّن الجفاءَ في عامِّيَّة تونس والجزائر ومرَّاكش، حتَّى لتحسبها مخلَّفةً عن بعض اللُّغات الأعجميَّة، فضلاً عمَّا فيها من جَسْأَةِ المنطق ونُبوِّه إلاَّ عن مسامع أهلها، بحيثُ يكاد لا يدورُ في مسمع الغريب عنهم إلاَّ مقاطع صوتيَّة يحسبها لأوَّل وهلةٍ ميِّتةً في ذهنه، لأنَّها لا تتعلَّق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذِّهنيَّة”([5])، ولكنَّ الوهم الَّذي توهَّمه الرَّافعيُّ قد وقع في بال أحد رجال اللُّغة والأدب في عصرنا الحديث، وهو الشَّيخ محمَّد الخضر حسين الجزائريُّ شيخُ الجامع الأزهر، ولكنَّه استدرك على وهمه بعد أن راز المسألة بالحقيقة لا التَّخرُّص، يقول في معرض مذكِّرةٍ قدَّمها إلى مجمع اللُّغة العربيَّة بالقاهرة: ” وأذكر أنِّي كنت ممَّن يحسبون أنَّ لهجةَ بلاد الجزائر قد بَعُدت من العربيَّة إلى أقصى غايةٍ، حتَّى أخذتُ أدرسُ مفرداتها، وأرجع فيما أشتبه فيه إلى معجمات اللُّغة؛ فوجدت أكثرها من أصل العربيَّة، غير أنَّهم يحرِّفونه بنحو تبديل بعض الحركات أو الحروف، أو بصوغه على غير قياسٍ، أو يتصرَّفون فيه بأحد طُرق المجاز…” ([6]).
وما لحظتُهُ في أمر عامِّيتَّنا الجزائريَّة لحظَهُ من هو أقدمُ وأعلمُ، وهذا طرَفٌ من البيان المجمل، يحتاج إلى تفصيلٍ في غير هذا المقام:
إنَّ أمر الاهتمام بالعامِّيَّة الجزائريَّة يكاد يرجع إلى الحقبة الاستعماريَّة([7])، فالإدارة الفرنسيَّة اتَّخذت جميع السُّبل الَّتي تمكِّنها من الشَّعب الجزائريِّ لـمَّا أبى خضوعًا، وأنف ركوعًا، وكان من الوسائل الَّتي ركَّزت عليها الاهتمامُ بدراسة اللَّهجة الجزائريَّة، وتدريسها لضبَّاط الجيش الفرنسيِّ، وكلِّ راغبٍ في الخدمة الإداريَّة للدَّولة، وابتدأ هذه المهمَّة بعضُ المشارقة الَّذين رافقوا الغزوَ الفرنسيَّ، منهم جوني فرعون السُّوريُّ المصريُّ، الَّذي وضع (النَّحو الابتدائيُّ للعربيَّة الدَّارجة)، ثمَّ اتَّسعت الدَّائرة لتشمل كلاًّ من: دي بوسي، ولويس برنييه، وشيربونو، وماشويل…، حيث صدر عن هؤلاء طائفة من الكتُب التَّعليميَّة بالعربيَّة الدَّارجة والفرنسيَّة، سواء الكتب التَّقعيديَّة، أو المعجمات والقواميس، فهذا (لويس برنييه) يؤلِّف مثلاً (موجز اللُّغة العربيَّة الدَّارجة في مدينة الجزائر، وفي الإيالة الجزائريَّة)، و (مفتاح كنوز النَّحو والأدب لفتح علوم العرب)، وكان أغلب المهتمِّين بهذا المجال من الدِّراسات العسكريِّين، وللدَّلالة على الاحتفاء البالغ للدَّولة الفرنسيَّة بمثل هؤلاء، عُقدت فيما بينهم المسابقات الَّتي رُصدت لها الجوائز السَّنيَّة، تشجيعاً لهم، وإنجازًا لمخطَّطها الاستيطانيِّ، وتحوَّل كثيرٌ من هؤلاء إلى مترجمين أفرد لهم المستشرق (شارل فيرو) كتاباً طبعه سنة 1876م بعنوان (مترجمو الجيش الإفريقيِّ)، إلاَّ أنَّ دراسة الدَّارجة نحت إلى جهةٍ أخرى، هي الدِّراسة العلميَّة الَّتي تبدأ حوالي سنة 1890م حسب (رينيه باصيه)، وقد شهدت هذه المرحلة إسهاماتٍ جزائريَّةً، نذكر منها:
– مجموعٌ في العربيَّة الدَّارجة، لعلاَّوة بن يحي، طبع سنة 1890م.
– مقدِّمة في قواعد اللُّغة الجارية، للغوثي بن محمَّد بن أبي عليٍّ التِّلمسانيِّ، طبع سنة 1904م.
– الطَّريقة المباشرة لتعليم العربيَّة الدَّارجة، للسَّيِّد فتَّاح، طبع سنة 1904م.
– دروس في العربيَّة الدَّارجة المرَّاكشيَّة والجزائريَّة، للدُّكتور ابن علي فخَّار التِّلمسانيِّ، طبع سنة 1913م.
– قاموس فرنسيٌّ عربيٌّ (اللُّغة الدَّارجة)، لنور الدِّين عبد القادر .
فانخرط هؤلاء وغيرهم عن غير قصد في خدمة الاحتلال، إذ مكر بهم وزيَّن لهم أعمالهم، فقطف ثمار جهدهم لتمكين أهدافه الخبيثة.
لتأتي مرحلة شيوع الوعي الوطنيِّ، وانبعاث الشَّخصيَّة الجزائريَّة من مكامنها على يد جمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريِّين، وبمجيء الاستقلال الوطنيِّ ازداد اهتمام الباحثين بموضوع الدَّارجة، فمنهم من نظر إلى علاقة الدَّارجة بالفصيحة من جهة النُّظم النَّحويَّة والصَّوتيَّة والتَّركيبيَّة…، وآخرون ولَّوا شطرهم نحو إبراز هذه العلاقة من جهة المفردات المشتركة بينهما، مؤكِّدين على أنَّ العامِّيَّة الجزائريَّة أخذت كثيرًا من الفصيحة، بل ليست هي إلاَّ تحوُّلًا عنها، فعملوا على حصر الفصيح في الاستخدام الدَّارج، ومقارنة الأساليب، فوقفوا على أمرٍ عظيمٍ من معهود العرب في خطابها، مستخدَمًا بطريقةٍ صحيحةٍ حينًا، ومحوَّرةٍ حينًا آخر، وهي ليست دعوى باطلةً، وإنَّما الأمر صار مقرَّرًا مؤكَّدًا، يقول الأستاذ المدنيُّ: «فاللَّهجة العامِّيَّة العربيَّة بالجزائر تعتبر بالنِّسبة إلى اللَّهجات العامِّيَّة الأخرى في البلاد الشَّرقيَّة لغةً فصحى راقيةً، فالعامِّيَّة عندنا هي العربيَّة الَّتي نزل بها القرآن، إنَّما دخل عليها تحريفٌ قليلٌ، لو بذل العلماءُ جهدًا صادقًا لِمَحقِه، لما بقيَ منه شيءٌ، ونحن بذلك أقرب الأمم العربيَّة إلى العربيَّة الفصحى، وهذه ميزةٌ لبلادنا لا يستطيع نزعها أحدٌ»([8]).
وممَّن عُني بالعامِّيَّة الجزائريَّة في المرحلة المذكورة آنفاً نجد:
– محمَّد البشير الإبراهيميُّ في كتابه (بقايا فصيح العربيَّة في اللَّهجة العامِّيَّة بالجزائر)، و(رسالة مخارج الحروف وصفاتها بين العربيَّة الفصحى والعامِّيَّة).
وكانت الأمنية عظيمةً أن يقع نظرنا على ما كتبه الإمام الإبراهيميُّ خصوصًا، فهو العالم الموسوعيُّ، واللُّغويُّ الحافظُ، يقول عنه العالم المغربيُّ إبراهيم الكتَّاني: «…كما هو أعجوبة الأعجايب في قوَّة حافظته، وسرعة استحضاره، وحضور بديهته، وهو مؤرِّخٌ جغرافيٌّ حجَّةٌ، يحدِّث عن كلِّ بقعةٍ في القطر الجزائريِّ، وسكَّانها وأصولهم، وأنسابهم، ومصاهراتهم، وعوائدهم وأعرافهم، وأخلاقهم وطبائعهم ومميِّزاتهم، واقتصاديَّاتهم، وأدبيَّاتهم، ومن نبغ فيهم من شخصيَّةٍ بارزةٍ في العلم والأدب، والحرب والسِّياسة والإدارة، وما حدث في كلِّ بقعةٍ من حربٍ وفتنٍ وهجراتٍ في مختلف العصور، وعمَّا فيها من معادن، وما تُنبِته أرضها من محروثٍ ومغروسٍ، وعن نباتاتها البرِّيَّة، وأسمائها العربيَّة والشَّعبيَّة، ومنافعها»([9]).
– محمَّد الطَّاهر التَّليلي في (شواهد الكلمات العامِّيَّة من اللُّغة العربيَّة الفصحى).
– عبد الملك مرتاض في (العامِّيَّة الجزائريَّة وعلاقتها بالفصحى).
– مختار نويوات ومحمَّد خان في (العامِّيَّة الجزائريَّة وصلتها بالعربيَّة الفصحى، منطقة الزِّيبان).
وغير هؤلاء كثيرٌ، ممَّن جعل موضوع العامِّيَّة الجزائريَّة مجالاً للبحث في دراساته العليا (الماجستير، والدُّكتوراة).
________________________________________
([1])- انظر (تاريخ ابن خلدون)، ج06، ص 03 – 103.
([2])- محمد البشير الإبراهيميُّ: الآثار،ج 05، ص 101.
([3])- مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ج 02، ص 561.
([4])- أحمد توفيق المدني: كتاب الجزائر، ص 142-143.
([5])- مصطفى صادق الرَّافعي: تاريخ آداب العرب، ج01، ص264.
([6])- محمَّد الخضر حسين: اللَّهجات العربيَّة في هذا العصر، مذكِّرة ضمن (موسوعة الأعمال الكاملة)، مج 06، 25.
([7])- انظر (تاريخ الجزائر الثَّقافي) لـ: أبو القاسم سعد اللَّه، ج 06، ص 41 – 62، ج 08، ص 48 – 51.
([8])- أحمد توفيق المدني: كتاب الجزائر، ص 143.
([9])- جريدة (العلم) المغربيَّة، ع: 1581-1582، بتاريخ: 2 و3 أكتوبر 1951، نقلاً عن مجلّة (الوعي)، ع2، ذو القعدة – ذو الحجَّة 1431 هـ / نوفمبر 2010م. ص