الكل يمكن أن يطير

كل من يزور ماليزيا وإندونيسيا وتايلاندا وسنغافورة وغيرها من الدول الأسيوية، يلاحظ في المطار طائرات في المدرجات مكتوب عليها هذا الشعار “الكل يطير” (Every One can fly).
لقد كانت فكرة مجنونة تدور بخلد رجل الأعمال الماليزي، توني فرننداز، الذي استطاع أن يحول هذا الشعار إلى حقيقة في سنوات قليلة، وينقل الفكرة إلى مشروع مجسد يستفيد من خدماته ملايين المسافرين، فأنعش عشرات المدن والعواصم بالسياحة البينية والتبادلات والخدمات الفندقية.
لفتت انتباه العقل المدبر والمؤسس ملاحظتان: الملاحظة الأولى تتعلق بالثورة الاتصالية “الانترنت”، وكيف يتم ربطها بعالم الطيران التجاري. والملاحظة الثانية ما هو الأثر لو قمنا بخفض تكاليف الرحلات الجوية إلى النصف؟
انطلقت التجربة بطائرتين سنة 2002 لتصل حاليا إلى 130 طائرة و30 مليون مسافر حول العالم، إلى 120 اتجاه وتواجد في 24 بلد، والسر في هذا التوسع السريع أن تسعيرة “آر آسيا” تعتبر أرخص تسعيرة في خطوط الطيران عموما حيث تعمل بـ 2.53 دج للكيلومتر الواحد لكل مقعد متاح على متنها (0.023 دولار)، ولها فعالية في فريق عملها تعتبر ثلاثة أضعاف فعالية طاقم طيران في شركة مماثلة، كما أنها أعلى شركة في معدل استخدام الطائرات من حيث الساعات. في أقل من عقد ونصف كان ذلك الشعار متحققا ومجسدا في أرض الواقع.
لعبت ثورة الاتصالات “الانترنت” وتوسع شبكة الشراء الالكتروني عبر التلفونات الذكية وشبكة الإنترنت دورا أساسيا في تحقيق هذا النجاح المنقطع النظير لخط طيران ناشئ. وكانت السياسة التسويقية للشركة تقوم على بيع المقاعد الفارغة بأقل ثمن ممكن، وقد وصلت الى ثمن رمزي مثل 40 دينار جزائري (1 رنجت ماليزي) لرحلة رابطة بين كوالالمبور عاصمة ماليزيا وإندويسيا.
كانت تعرض المقاعد المحتملة بأن تبقى فارغة بواحد رنجت ماليزي وتجمع هذه المقاعد على مدى شهر أو شهرين أو سداسي وتعلن عنها. مليون مقعد بواحد رنجت، فيتهافت آلاف الناس على اقتناء هذه المقاعد بل جعلت من لم يفكر في حياته بالسفر في الطائرة يفكر في السفر وإلى أماكن لم تكن لتخطر على باله.
وهنا ولدت حاجة الأجيال الجديدة للسفر والسياحة واكتشاف آسيا، والدول المجاورة، ومن سافر اليوم بواحد رنجت لن يمانع بشراء تذكرة غدا بألف رنجت، وقد قيل أن 6% من الماليزيين كانوا يسافرون بالطائرات واليوم معظم من بلغ قد سافر ولو مرة واحدة بالطائرة.
وببيع تلك المقاعد وعادة لا تتجاوز 10% من الرحلة تكون قد ضمنت الحد الأدنى من المسافرين لكل رحلة، ثم تعرض جزء ثانيا بسعر أعلى وثورة الإنترنت لم تعد تحتاج إلى مكاتب الحجز والاتصال بالوكلاء يكفي أن تفتح صفحة الشركة في الإنترنيت أو التطبيق في الهاتف الذكي وتقوم بالحجز وأنت جالس في مقهى مع أصدقائك أو في بيتك على طاولة الأكل مع أبنائك وتقررون فجأة السفر إلى فيتنام أو سنغافورة.
قامت الشركة بتطوير اللوغاريتمات في مواقعها الالكترونية للحجز، حيث تعرض عليك للمرة الأولى سعرا مغريا إذا لم تشتر في تلك اللحظة وتغلق المتصفح ثم تعود مرة أخرى فستجد السعر مرتفعا، من هنا تلد الرغبة في السفر لتصبح بعد ذلك زبونا شبه مؤكد. وهكذا دواليك.
ثم قامت الشركة بعملية تثقيف وتعليم لجمهور المسافرين، حيث تفرق بين ثمن المقعد الذي تستفيد منه الشركة وبين ضرائب المطار والتكاليف الأخرى التي تدفع لمقدمي الخدمات.
لم تكن هذه التجربة ممكنة بمجرد انتباه رجل الأعمال الماليزي فحسب، وإنما المناخ الاستثماري لعب دورا أساسيا في ذلك، حيث تبنت الحكومة الماليزية الفكرة عندما شعرت بالحاجة إلى ذلك وبالفائدة التي ستعود على صورة البلاد، فوافقت على التجربة ودعمتها، حيث تبنى رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد فكرة “الأجواء المفتوحة” وسعى إلى توقيع اتفاقات مع العديد من الدول المجاورة لفتح الأجواء والسماح بالهبوط والإقلاع من مطاراتها، كفضاء مفتوح غير مقيد.
وبعد سنوات قليلة قامت الشركة بتأسيس خطوط طيران في كل الدول التي سمحت لها بالهبوط، اير آسيا تايلاند، آر آسيا اندونيسيا، اير آسيا الهند. ووسعت خدماتها ومكاتبها ونشاطها في هذه المطارات وأصبح الكل مستفيد.
ثم قامت الحكومة الماليزية باستثمار هذا الإقبال على التجربة والتجاوب معها، ببناء مطار قريب من المطار الدولي، وقد تم تصميم هذا الجديد لاستعماله بتكاليف منخفضة، يستعمل كمنصة رئيسية في المنطقة للطائرات ذات السعر المنخفض. وإذا نزلت لذلك المطار فسستفاجأ بأعداد المسافرين الهائلة، حيث تم دعمه بمركز تسوق فتحول إلى شبه مكان سياحي إضافي.
كما لعبت بورصة كوالالمبور دورا أساسيا في الدعم المالي للمشروع، فقد تحول المشروع إلى شركة مساهمة عامة عندما تم إدراجه في بورصة كوالالمبور سنة 2004، وخاصة من طرف صغار المستثمرين، وهم الجيل الصاعد من الشباب الماليزي المتعلم الذي يتابع أخبار الشركة ويريد أن يكتشف العالم حوله ويسافر ويحلق في الأجواء. وهؤلاء هم من كان يسارع لشراء الأسهم بسعر لا يتجاوز 30 دج للسهم الواحد. هؤلاء الملايين المساهمين يعتبرون شركاء فعليين في نهوض هذا القطاع وهم الملايين الذين يسافرون صباح مساء كلما كانت الفرصة مواتية إلى كل مكان وفي كل مناسبة.
هذه قصة من النجاح المشترك، لصاحب المشروع كيف انتبه لأهمية الانترنيت وأهمية توفير مقاعد في الجو لكل الناس، وللمناخ الاستثماري الذي يحتضن الأفكار الجديدة ويجعلها واقعا مجسدا، وللحكومة التي تعتبر نفسها في خدمة النجاح والناجحين وللمجتمع الذي يحتضن الفكرة ويدعمها ويكون جزءا من قصة نجاحها.