الفرنسة السرطان المتجدد- الدكتور عمار جيدل
الفرنسة سرطان متجدد كلما عالجت خلية تسلّط على خلية أخرى، بقصد إفقاد الجسم مناعته، والاستعمار الفرنسي لا يهدأ له بال ويغمض له رمش حتى يمكّن لسياسة الفرنسة في مستعمراته القديمة وخاصة الشمال الإفريقي، وتتميّز الفرنسة بالتلبيس بأفانين الخداع، فجاء الاستعمار إلى الجزائر بسياسة الفرنسة وحلاّها بعنوان الدواء ويريد أن يبقى فيها بالعنوان نفسه (دواء) ولكنه في حقيقة الأمر مستخلص داء مركّز، ما سكن بدنا إلا وأرداه فاقدا للمناعة الحضارية، وأوجد فيه الاستعداد لقبول الغزو، لهذا كان مجيئه وبقاؤه في البلدان العربية وخاصة الشمال الإفريقي كمجيء الأمراض الوافدة، تحمل الموت وأسباب الموت المعنوي والمادي للشعوب المالكة للسان العربي.
وجدت الفرنسة في بلادنا مقومات راسخة الأصول، ممتدة الفروع باسقة الأفانين، فكانت سياستها كما قال الشيخ البشير الإبراهيمي: ” تعهّد في الظاهر باحترامها، والمحافظة عليها، وقطع قادته وأئمته العهود على أنفسهم وعلى دولتهم ليكونّن الحامين للموجود المشهود من عقائد وعوائد”(الآثار 4/47) وهل اختلفت محاولات الزيغ الحديث عن أساليب الفرنسة الاستعمارية، عملت الفرنسة عبر التاريخ في الباطن على محو مقومات المجتمع بالتدريج، مع التصريح التام الواضح باحترامها، وكان ساسة الاستعمار مع رغبتهم الملحّة في المحو المسخ، يصرحون باحترام المقومات، وكذلك يفعل ورثة مشروعه، نعم قد يتم لهم بعض ما أرادوا مع طول الزمن بالقوة وبطرائق من التضليل والتغفيل، ولكنه لن يستمر لأن الكذب ينطلي على الناس بعض الوقت ولكنه لا يدوم مهما طالت أيامه.
الفرنسة سرطان يسكن الخلايا ويرديها عديمة المناعة بل وتحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح، تريد الفرنسة أن تكون قوانين البلد التي كان لها به سابق عهد (المستعمرات السابقة) نسخ عن قوانينه، ناسخا لأحكام الشريعة بالتواطؤ حينا وبالتضليل حينا وبالتشهير بأهل البلد الأصلاء حينا ثالثا.
تحارب الفرنسة الإيمان بالإلحاد، والفضيلة بالرذيلة، والتعليم المنتج للحضارة بالتعليم المستنسخ لأنموذج التبعية الفكرية والحضارية والتربوية و…، تخطط الفرنسة لمزاحمة البيان العربي الرصين بعامية لا يستقيم معها تفكير ولا تدبير ولا تعبير، مزاحمة العربية بالسعي إلى فرض تعليم العلوم البحت باللغة الفرنسية، بالرغم من استيعاب تلاميذنا للمفاهيم الرياضية باللغة العربية بحجة أن الطلبة في المراحل الجامعية لا يستوعبون الرياضيات لأنّها باللغة الفرنسية، وهذا يفرض تعليمهم لها باللغة الفرنسية، فهل في العقلاء من يقبل مثل هذا المنطق المقلوب، فإذا كان التلاميذ يستوعبون الرياضيات باللغة العربية فلماذا نغّير لهم لغة التدريس في مرحلة التعليم العالي؟ الأصل أن نستصحب اللغة التي كانوا بها يستوعبون، وليس العكس، هذه مشكلة الفرنسة بلا عقل بلا منطق بلا منهج بلا تفكير سلس، مستندها الحيلة والتضليل والعنصرية البغيضة (المفرنس ولا أحد غير المفرنس، فلا يقبلون أية لغة أخرى، وإن كانت غربية متحكّمة في ناصية العلم) والاستقواء بالمناصب التنفيذية.
ترمي الفرنسة (وليست الفرنسية بوصفها لغة تواصل) إلى نقل عقدتها من الحياء (وهو غير الخجل) إلى المجتمع، فتصمه بالمعقد لأنّه ضد مشروع المسخ الممنهج للحياء، فتقول بعض وثائقهم التربوية محادثات تتضمن مواضيع لا تتوافق مع سن الطفل واهتماماته، وفيها نوع تحريض ضمني على التحرش المبكر، وصور لو عرضت على الشاشة أمام أسرة جزائرية أصيلة لغيّروا القناة، لأنّهم مجتمع الحياء، وليسوا مجتمعا فرنسيا، ولا يمكن أن يكونوا أنصارا للفرنسة، مع علمهم بأنّ الفرنسيس لا يقبلونهم مهما غيّروا جلودهم،…
يريدون أن نرى تلك الصور في كتبنا، ونرى الشمعدان اليهودي في كتبنا ومن أموالنا ونبقى عن هذا ساكتين، الجزائري الأصيل إن وقع أن شاهد تلك الصور يعلم يقينا أنّها ليست من الحياء ولا من شيم الجزائري الأصيل، والفرنسة لعقدتها من الحياء تتضايق من حياء الآخرين، فتريدهم أن يفقدوا الحياء وتمر تلك الصور دون تعليق ودون طمس لها، فإذا كان الجزائري الأصيل يغيّر القناة لتلك المشاهد، فلا نستغرب أن يطمس صورة الشمعدان وصورة مفرنسة على شاطئ البحر مع ابنتها بلباسهم المعهود بينهم، لأنّنا لا نرضاه لبناتنا فكيف نرضى أن نراه في كتبنا، والموضوعية تفرض أنّ من أراد أن يعيش تلك الخلال فليسافر إلى بلدها؛ ولا يستدعيها لتستوطن بلدنا أو ينقل صورتها في كتبنا.
مما تتغنّى به الفرنسة التسامح، هكذا بهذا العنوان، من غير ضبط ولا منطق قويم كما هي العادة عند دعاة الفرنسة؟ التسامح من أهم مبتنياته التخارج أي الاختلاف أي التمايز، فغير المتمايزين من اللغو الحديث عن التسامح بينهم، وإذا كان من متطلبات التسامح التمايز والاختلاف، فمن أنا ومن الآخر الذي أتسامح معه؟ وكيف السبيل إلى تجذير انتمائي للهوية التي بناء عليها أتسامح؟ يقول الجزائري أنا أحب الجزائر حبا جنونيا، وهذا ليس من قبيل العرقية البغيضة (الشوفينية) وأحب من أحب الجزائر ومن كان معوانا لها، وأحترم كلّ من يحترمها، والاستعمار يعمل على منع استقلالنا الحقيقي، ولا يهدأ له بال بالمعهود من الوسائل وغيرها، فمن تمام محبة الجزائر أن أكره الفرنسة لأنها وجه متجدد لسرطان الاستعمار، وإذا كنت متسامحا مع هذا الأمر فهذا شاهد قوي على أنّ حب الجزائر مجرّد دعوى فارغة لا شاهد من واقع ملموس يرى في بغض من يتآمر على الجزائر وشعبها ولغتها دينها وموروثها المعنوي والمادي، مثال آخر للتسامح: يقول الجزائري أنا أحب الله، ولكي أكون متسامحا بحسب منطقهم، ما الجهات أو الجهة التي يتعيّن أن نعاملها بتسامح؟ هل يجتمع حبّ الله مع حبّ من بغّض الله حبّهم؟ نعلم يقينا كما يقول علماء المقاصد أنّ المقصد التبعي إذا كان مزاحما للمقصد الأصلي فلا اعتبار له، لهذا إذا كنت تحب من بغّضهم الله إلى الخلق (على رأسهم أستاذهم إبليس(عليه من الله ما يستحق)، هل ألعنه، أم أسكت بحسب مذهب التسامح أو أن أكون محايدا فلا أذكره بما يستحق؟ سلوا عن هذه المسألة (مفكري التسامح) فدعواك حب الله عارية ومجرّد دعوى، لهذا كان من تمام حبّ الله على الأقل بغض صفات المبغّضين، وتبتعد من أن تكون منهم أو نصيرا لهم.
التسامح ثقافة مبناها التمايز الجوهري بين المتسامحين، ويعلم أن المتسامح هو الذي يعلم من هو، ولا يعلم من هو بغير هويته المستمدة من دينه المعجونة بتراب وطنه، الساكنة في الضمير الجمعي لمجتمعه.
الفرنسة تضيق بهذه المعاني، تضيق بمجتمع لا يقبل قيمهما وطريقتها في التفكير والتدبير والتعبير، فضلا عن حرصها على عدم الشفافية، فالحيلة وادّعاء احترام قيم ولغات الآخرين مجرّد خرافات مارسها أسلافهم، فهو ديدن الاستعمار يدعي الاحترام ويعمل خلاف ذلك تماما، لهذا فالاحترام ليس مجرد دعوى فارغة بل تصرفات وأعمال ومنجزات، فمن خذلته المنجزات لا تسرع به المقاولات (كثرة الأقوال).
نجاح الفرنسة بهذه المسالك (بالرغم من ثقتنا بأن مآلها الفشل الذريع) لا يشرف المنتصرين أو الساعين للانتصار على ميراث مجتمع، ولا يمجد لهم تاريخا لأنّهم ساعون إلى دكّ أسس ثقافة بلدهم ليرفعوا أسس ثقافات أخرى مزاحمة، فضلا عن كونها ليست أصيلة ولا إنسانية، بل سيترك مجرد المسعى جراحا غائرة في نفوس وضمائر عموم أصلاء أهل البلد، وستتناقل الأجيال اللاحقة، أنّهم كانوا يحاربون ثقافة المجتمع ولغته ويسعون للتمكين لثقافة الغازي باللسان العربي نفسه من جهة واللسان الفرنسي نفسه من جهة أخرى، ويسعون بلا كلل لأجل منع تجذير الاستقلال، والتأسيس لعدم أثر استشعار فقده على الحاضر والمستقبل، ومن يتبنى مدافعة مسعاهم له سلف وأي سلف من الأمير عبد القادر، وعبد الحليم بن سماية وابن باديس والبشير الإبراهيمي… وأكرم بهم من رجال من السلف وسلام على من كان لآثارهم خير خلف.