مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
حدث وتعليق

عقدة الفرنسيّة – بقلم مصطفى لقاط

10-en-11-letterwoorden

لا يُنكر ذو عقل أنّ مَن يدافع عن لواء المستعمر القديم المتجدّد قد نجح إلى حدّ بعيد في إلصاق عقدة النّقص بشخصيّة الفرد الجزائري وضربه في قيمه، فأمسى يرى في الفرنسيّة رمزا ولهويته لمزا، بل يرى فيمن ينطق بالعربيّة إنسانا متخلّفا أو “متغندفا”، ولا يميز من يعتزّ بنفسه ويرتقي بثقافته ويزهو بفصاحته ويتغنّى بلغته- وإن تعدّى بحرها ونطق غيرها- عن وحيد اللّغة من لا ينطق غير العربيّة لسانُه، وبقي أسيرا لها وجدانه، فينتفض دفاعا عنها للذّود عن وحدانيّة لغته ومحدوديّة مَكنته، فأصبح كلّ من اعتز بعربيّته وحيد اللّغة، ولو أحسن غيرها ما تكلّم بها! الجزائريّ ربّما الوحيد الّذي بلغت منه عقدة النّقص أن لو طلبت منه أن يفاضل بين دكتور يخاطبه بعربيّة فصيحة صحيحة، وأمّيّ يتكلّم الفرنسيّة وهي عليه عصيّة، لقال لك أنّ الثّاني أبلغ علما من الأوّل وأوسع ثقافة منه، فقط لأنّه فرنسي اللّسان! فبتكلمه الفرنسيّة أعضد شروط الرّقي وجوامع المعارف، بلغ مستوى معقولا ولا يكون إلّا “مسؤولا”! والثاني ينطق بتكلّف وأبان عن سمات التخلّف، وعورته عربيته! أولا يعلم أنّ اللّغة وسيلة وصول للمعارف والتّعبير عنها و ليست أمّ المعارف بذاتها؟ قلت سبحان الله ! كم يلزمنا من وقت لفكّ هذه العقد الّتي ألصقتها بنا فرنسا وأزلامها، وأنبتت فينا الهزيمة النّفسيّة و الشّخصيّة القابلة للعبوديّة؟
إنّما ترتقي اللّغة برقيّ أهلها وتتقهقر بتقهقرهم، فأيّام كانت حضارة العالم عربيّة إسلاميّة كان الأوربيّون يتشدّقون بتكلّم العربيّة ويتسابقون لتعلّمها، لأنّها كانت لغة قوم أهل علم وحضارة، بل كان الرّجل حينما يخطب ودّ امرأة يرميها بكلمات عربيّة ليظهر في ثوب المتحضّر، وابحثوا في أصل الجبّة العربيّة الّتي يلبسها خرّيجو الجامعات وأصحاب الشّهادات، ولكن ممّا يجدر التنبيه إليه أنّ نهضة الغرب لم تكن باللّغة العربيّة، بل ترجموا علوم العرب إلى لغاتهم ونهضوا بها، وكذلك تطوّر اليابانيّون بلغتهم اليابانيّة والصّينيّون بالصّينيّة والهنود بالهنديّة والماليزيّون بالماليزيّة والصهاينة بالعبريّة، إلا الجزائر! كُتب عليها أن لا تقدّم ولا تطوّر إلا بلغة قد جاوزها الزّمن، ويجدر تذكير من “افتجأت” بكلمات جميلات قالها المفكّر المغيّب مالك بن نبي أنّ “التّاريخ لم يعرف شعبا تطوّر بغير لغته”، وجلّ العلماء والمبدعين إنّما برعوا بلغتهم وأبدعوا بها، ولغة العلم إنّما هي لغة نهض بها أهلها، فأيّ دار ارتقت فيها العلوم أصبحت لغة أهلها لغة علم، وليست حكرا على لغة بعينها كما يعقدها المعقّدون بالفرنسيّة، فلا توجد لغة علم ثابتة بعينها وأخرى محرومة من هذه الصّفة، فلغة العلم في علوم الإسلام من حديث وتفسير وفقه وأصول وغيرهم، كانت وتبقى العربيّة ولا يمكن أن تدرس بأحسن من لغة القرآن، وكذلك تُضرب الأمثال، ولا يختلف اثنان في أنّ لغة البحث العلميّ في عصرنا هي الانجليزيّة الّتي تُجرى بها أكثر البحوث العلميّة بل جلها، وحتّى الاسبانيّة أصبحت تتفوّق على الفرنسيّة في البحث العلمي، وممّا يعتبر قاصمة ظهر دعاة الفرنسة أنّ الفرنسيّين أنفسهم أوجبوا تعلّم الإنجليزيّة في مدارسهم، وإن منعتهم أنفتهم من وصفها بلغة العلم، لكنّهم اعترفوا على الأقل أنّها ” لغة العصر”، وأضحت جامعاتهم تُجري بحوثها العلميّة باللّغة الانجليزيّة في الطّبّ والفيزياء والرياضيّات والإعلام الآلي والهندسة بكلّ فروعها، والقانون وعلم النّفس والاجتماع… بل وفي التّاريخ، فلماذا يصرّون على إبقائنا أتباعا للأتباع؟ إنّ اللّغة العربيّة بثرائها اللّفظي وسحرها البلاغي وغناها النّحوي وجمالها الصّرفي والذّي لا تنافسها فيه لغة، هي بامتياز أكثر من تلائمها صفة “لغة العلم” وتوفّر لها متطلّباتها، وهي أصلح لهذه الصّفة من غيرها لو كانوا يفقهون، وأنّى يفقه هذا من عميت أبصارهم وطمست بصائرهم، فهو لا يتوافق وعقدهم النّفسيّة أو أهواءهم العصيّة، والخوف كلّ الخوف، فيمن يعادون اللّغة العربيّة ويحاربونها، أن تكون مشكلتهم الرئيسيّة هي الإسلام، فقد يكنّون له الضّغينة قبل لغته، ويرمونه بالرّجعيّة والقدم، وإنّما يوصلون حكمهم الحاقد بلغة كتابه فتلحق به في حكمهم عليه، وكذلك فعل العميل أتاتورك الحاقد على الإسلام إذ أقصاه وأقصى معه لغة كتابه، بل بلغت به ضغينته أن فرض كتابة اللّغة التّركيّة بغير الأحرف العربيّة! و لكن يمكرون و يمكر الله.
إنّ الرّئيس الفرنسي شيراك وبّخ وزيرا له بعنف وعلى الملأ لأنّه تكلّم بالإنجليزيّة في مؤتمر أوربّي ولم يتكلّم بلغة بلده، وكذلك يفعل من يعرف قيمة الثّوابت ومقوّمات المجتمع الّذي يحترم نفسه، لكنّ المتفرنس الجزائري الأكثر دفاعا عن الفرنسيّة من الفرنسيّين أنفسهم – الّذين يتعلّمون الانجليزيّة الآن- لا يمكنه تعلّم الاعتزاز بلغته من اعتزاز الفرنسيّين بلغتهم، فهو لا يفقه عزّة لا ترتبط بفرنسا ولا رفعة ليس فيها رائحة فرنسا، ولو علم كيف يحتقره الفرنسيّون عندما يتنكّر لأصله و”يتلصّق” بهم، و كيف يستهين الفرنسيّون بمن يخون وطنه ويتنكّر لثقافته، لقبل أن يتجرّع الموت ألوانا دون ذلك- لو كانت فيهم ذرة من العزّة الّتي يتغنّون بها بكرة وعشيا- وبجدّ ينطبق عليهم المثل الجزائري “شاف الفار وعمى”، فهم شافوا فرنسا وعموا، بل عموا و صمّوا! أفيقوا فالعالم ليس فرنسا، والغرب ليس فرنسا، والعلوم ليست فرنسيّة، والحضارة ليست لها جنسيّة، والنّهضة لا تشترط لغة فرنسا، فحتّى لو أعملنا قول ابن خلدون أنّ المغلوب يتّبع الغالب في كل شيء و يتشبّه به، هلّا أفاق هؤلاء النّوّم من سباتهم ليروا أنّ فرنسا لم تبق فرنسا، وأنها الآن تابع أكثر ممّا هي متبوع؟ وهل يعلم من يلصق ضعف التّعليم باللّغة، الّذين يظنّون أنّ ترقية التّعليم في الجزائر لا تكون إلّا بفرنسته، أنّ فرنسا “بفرنسيّتها” تتذيّل ترتيب المنظومات التّعليميّة في أوربا، ولو كانت الحكمة في لغتها ما أضحت دون العشر الأُوَل، وأنّ الأولى هي فنلندا الّتي تطوّرت بالفنلنديّة وليس بالفرنسيّة؟ أفلا يعقلون؟ فليرونا دولة واحدة في العالم تطوّرت لأنّها اعتمدت اللّغة الفرنسيّة في تعليمها لو كانوا صادقين؟ بل إنّ أغلب الدّول المتخلّفة هي رهينة للفرنسة في تعليمها ولم يوصلها ذلك للتّقدّم ولم تقف يوما على بابه، أفلا يذّكرون؟ وبعدُ، سادت الفرنسيّة في الجزائر منذ الاستقلال، وأثبتت فشلها مدّة نصف قرن، ولم نجن غير التّقهقر العلميّ والانسلاخ الثّقافي، فهل يُعقل أن ننتظر نصف قرن آخر من الفشل حتّى يثبت فرسان “فرنسوا الرّابع” عكس ذلك؟ ثمّ لماذا لا “تديرو النّيف” فتنهضون بلغتكم وترجعونها إلى مصاف لغة العلم مثلما كانت؟ فإنّما تقوم الأمم بنخبها وعلمائها، وما نقص الجزائر نخب وعلماء وهي صاحبة أكبر معدّل للأدمغة المهاجرة من بيوت العرب! ولكن هيهات أن تغرس عزّة العمل وقداسته في نفس عاشت على التّسوّل وكبرت على المهانة، فليس لإعمال الفرنسة فائدة غير تثبيت أقدام “الكولون” القديم المتجدّد، وحرص فرنسا على فرض الفرنسيّة على الجزائرييّن رغم أنوفهم، وهو لسان حال ميتران وشيراك وساركوزي وغيرهم ممّن تشبّع بالفكر الاستعماري، ليس حبّا بنا أو رغبة في تقدّمنا، بل حرصا على إبقائنا في مصاف الأتباع، وكيف يقبل من يحسب نفسه سيّدا أن يتساوى مع من يراه دونه بل عبدا له، والغريب أن ترى هؤلاء الّذين يدافعون عن مصالح فرنسا في الجزائر كيف يعاملهم الفرنسيّون أنفسهم- رغم خدمته لهم- بمهانة وإذلال، ولا عجب “فإنّ العبد بالإهانة ينتشي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى