بنو أمية..في الأحاديث النبوية!
أخبار الغيب الصحيحة في النصوص النبوية تناولت-في معظمها- الظواهر لا الأشخاص، تبشيرا أو تحذيرا، وما ورد من إخبار عن أشخاص فالأسانيد فيها كلام، والركون إليها ضرب من ضروب التيه عن المقاصد، أو وجه من أوجه الاستغلال للأحداث! في صراعات السياسة و السلطة.
قال ابن القيم في المنار المنيف (116)”. ومن ذلك ما وضعه بعض جهلة أهل السنة في فضائل معاوية ابن أبي سفيان، قال إسحاق بن راهويه: لا يصح في فضائل معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.. .ومن ذلك ما وضعه الكذابون في مناقب أبي حنيفة والشافعي على التنصيص على اسميهما، وما وضعه الكذابون أيضا في ذمهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يروى من ذلك كله كذب مختلق، ومن ذلك الأحاديث في ذم معاوية، وكل حديث في ذمه فهو كذب، وكل حديث في ذم عمرو بن العاص فهو كذب، وكل حديث في ذم بني أمية فهو كذب، وكل حديث في مدح المنصور والسفاح والرشيد فهو كذب، وكل حديث في مدح بغداد أو ذمها والبصرة والكوفة ومرو وعسقلان والإسكندرية ونصيبين وأنطاكية فهو كذب، وكل حديث في تحريم ولد العباس على النار فهو كذب، وكذا كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس فهو كذب، وكل حديث في مدح أهل خراسان الخارجين مع عبد الله بن علي ولد العباس فهو كذب، وكل حديث فيه أن مدينة كذا وكذا من مدن الجنة أو من مدن النار فهو كذب”. وفي ص (117) من نفس الكتاب قال: “… وحديث عدد الخلفاء من ولد العباس كذب. وكذلك أحاديث ذم الوليد وذم مروان بن الحكم..”.
في هذه النصوص المكذوبة التي أشار إليها ابن القيم دليل على تدخّل الأهواء السياسية في اختلاق بعض النصوص، التي تؤيِّد هذا الفريق أو ذاك، ويبدو أن بعض المحدثين لم يسلموا من رذاذ هذا الاتجاه، في تقوية حديث يثني-أو يطعن- في شخص أو طائفة أو بلد، من خلال الاعتماد على جمع الطرق والأسانيد- سبيلا للتقوية، في منهج لا غبار عليه في الأصل، غير أن تطبيقه أفضى إلى إخلال بيِّن، يتمثّل في جمع الأسانيد الواهية، بغرض تقوية الخبر، والذهول أحيانا-في خضمّ هذا المسعى- عن نصوص معارِضة، قد تكون أقوى بكثير، أو عن معان و مقاصد لا ينبغي تجاوزها أو الغفلة عنها!
ويبدو أن هذا الملحظ هو الجواب-أو بعضه- عن السؤال المطروح في أول هذه الحلقات: ما بين تصحيح الحاكم لهذا الحديث- على شرط البخاري ومسلم- ! و بين الحكم عليه بالبطلان من قبَل ابن حبان بون شاسع، فما الذي يصل بالخلاف في الحكم إلى هذه الدرجة؟
قَدمُ ابن حبان في هذا الفنّ أرسخ من قدم الحاكم فيه، وهو أقرب-زمنيا-إلى مرحلة التأسيس، وإن رُمي الرجلان- كلاهما- ببعض التساهل في التصحيح، وقد يُضاف إلى ذلك- فيما يتعلّق بهذا الحديث- ميول الحاكم “الشيعية” التي تُذكر في ترجمته، وقد يدلّ عليها صيغة الجزم التي توحي بها عبارته: “هو الوليد بن يزيد بلا شك ولا مرية.”! وذلك بالنظر إلى كثرة ما ورد في ترجمته في كتب التاريخ من طعون و مثالب، ترقى إلى التشكيك في سلامة عقيدته.
ويبدو أن المؤرخين متفقون على فسقه ومجونه الذي تميّز- وهو خليفة-بالمجاهرة به، إلى الحدّ الذي انفرد فيه ابن تغري بردي في كتابه مورد اللطافة فيمن ولي السلطنة والخلافة (1/104) إلى التعليق على هذه السيرة بالقول: “الذي أقوله أنا في حق الوليد هذا: أنه كان في عقله خلل، وإلا- وإن كان زنديقا- كان يمكنه أن يتستر فيما يفعله من الإلحاد والزندقة، خوفا من عواقب الأمور الدنيوية، من قيام الناس عليه وخلعه من الخلافة وما أشبه ذلك، غير أنه كان ناقص العقل مع سوء اعتقاد؛ فحملاه على ما وقع منه”.
وقد ذكر له بعض المؤرخين- على قلّتهم- بعض المآثر في سيرته، وبعضهم نفى عنه تلك المطاعن !قال ابن الأثير في كتابه الكامل (4/308): “وقد نزّه قوم الوليد مما قيل فيه، وأنكروه ونفوه عنه وقالوا: إنه قيل عنه وألصق به، وليس بصحيح”.
وفي بداية الترجمة له في تاريخ الإسلام (8/287) قال الذهبي: “الخليفة الفاسق…” وفي (8/291) قال: “قلت: مقت الناس الوليد لفسقه، وتأثموا من السكوت عنه، وخرجوا عليه..” وفي نهايته بعد ثلاث صفحات قال: “… سامحه الله، ولم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، نعم اشتهر بالخمر والتلوّط، فخرجوا عليه لذلك”.
وقال ابن خلدون في تاريخه (3/132): “… ولقد ساءت القالة فيه كثيرا، وكثير من الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء ألصقوها به”.
يكاد يكون الفسق والتهتّك هو السمة الغالبة على سيرة الوليد بن يزيد، حتى ولو لم يثبت فيه كل ما أُثِر عنه، مما قد يكون أُلصق بسيرته، ولم أقف على مَن نَعت الرجل بظلم الرعية والتجبّر عليهم، فَمن أولى بصفة الفرعون التي وردت في الخبر: الوليد بن يزيد أو الحجاج بن يوسف؟! الذي قال الذهبي عنه في بداية الترجمة له في سير أعلام النبلاء (5/199): “.. وكان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سفاكا للدماء..”.
يبدو أن هذه المفارقة في القياس، بالإضافة إلى ما يجده الناقد المتضلِّع في الفن مما يشبه الإلهام هو الذي كان وراء عبارة ابن حبان القوية: “وهذا خبر باطل، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولا عمر رواه، ولا سعيد حدث به، ولا الزهري رواه، ولا هو عن حديث الأوزاعي بهذا الإسناد..”.