الفارس الذي رحل ..الشيخ عبدالرحمن شيبان رحمه الله

بقلم :الأستاذ عبد الحميد عبدوس
في البداية ليعذرني الزملاء الأفاضل مسؤولي التحرير في جريدة البصائر وقراؤها الكرام أن أعيد في هذا المقال المعد بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل العلامة الجليل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ـ رحمه الله ـ نشر ما سبق لي أن كتبته في الذكرى الأولى لرحيله ) .
وهذا نصه: “مرت سنة على رحيل العالم المجاهد الأديب، سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق.
مرت سنة من عمر الزمن المادي ولكنها مجرد لحظة في شريط السنين، ووشم في الذاكرة، فلا أنسى صبيحة يوم الجمعة 12 رمضان 1432هـ الموافق 12 أوت 2011م، حيث أيقظني باكرا صوت الدكتور نوفل شيبان، لينعي إلي أفول نجم طالما ملأ علينا الدنيا ضياء وحكمة وعلما، ورغم ثقل الرزية فلم يفاجئني الخبر، إذ كنت أتابع أخبار الشيخ الجليل في مرضه، وقبل أيام قليلة من هذا المصاب وصلتني رسالة كانت تحمل آخر موضوع كتبه سماحة الشيخ لركن “سانحة البصائر”، وكتب فوق الظرف الخارجي للرسالة العبارات التالية: “الأخ الصديق الحميم الأستاذ عبد الحميد عبدوس، حفظه الله، كلمة أردت من سيادتكم نشرها في جريدتنا البصائر لهذا الأسبوع، مع التحية لجميع عمال البصائر، من أخيك في الله الذي أعجزته الأيام حتى عن إمساك القلم، حياكم الله…”
كان الخط مضطربا ومغايرا للنمط الذي تعوّد الشيخ –رحمه الله- أن يلتزمه بإسباغ كل ما استطاع من الأناقة والوضوح على مراسلاته، ولكنه كان معبرا أصدق تعبير عن شخصية ذلك المجاهد الذي تحدى الضعف والمرض، وثقل السنين، وظل إلى آخر لحظة في حياته عاملا، موجها، ناصحا، ومدافعا عن العربية والإسلام، وكأنه كان يطبق حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي رواه أنس بن مالك –رضي الله عنه- وأخرجه الإمام أحمد: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.
وذكرني ذلك بموقف آخر للشيخ شيبان، ذلك العملاق الذي لا يلين، ولا يستكين، ولا يضعف أمام الشدائد والمرض، فقبل عدة شهور من وفاته، وأعتقد أن ذلك كان في ربيع عام 2011م، اتصل بي الدكتور أحمد بن نعمان وطلب مني أن أتولى إقناع الشيخ عبد الرحمن شيبان بالمشاركة في الفيلم الوثائقي الذي أنجزه المخرج عبد الباقي صلاي، عن الإمام عبد الحميد بن باديس، فاعتذرت له بأن الشيخ طريح الفراش في بيته وهو يصارع عدة أمراض اجتمعت عليه في آن واحد، وأشد ما يعانيه هو فترات يحتبس فيها لسانه وتتعثر كلماته، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة، وبأنه فارس الخطابة والبيان في أيامه الخوالي، إذ تطرأ عليه في مرضه حالات يفقد فيها الذاكرة والتركيز لفترات تطول أو تقصر، ولكن الدكتور بن نعمان، أصر، وطلب مني بكل إلحاح أن أعرض عليه الفكرة لأن شهادته في فيلم وثائقي عن قدوته في التعليم والإصلاح إمام النهضة الجزائرية، الشيخ عبد الحميد بن باديس، تعتبر جهادا في العلم، وتصحيحا للتاريخ للأجيال التي لم تعرف الإمام ابن باديس، فاستجمعت أمري وعرضت الفكرة على الشيخ، وساعدني نجله الدكتور نوفل شيبان في إقناعه على تقبلها. ولما جاءت ساعة الحسم، استطاع الشيخ –رحمه الله- بعون الله تبارك وتعالى أولا، ثم بقوة إرادته وصلابة عزيمته ودافع الحب لشيخه ابن باديس أن يتغلب على كل مشاكله الصحية، ويظهر بكل إقناع أمام الكاميرا، وأن يسجل مداخلة رائعة ومفيدة، أدهشت كل الحاضرين في تلك الجلسة التصويرية.
صباح الجمعة 12 أوت 2011م توجهت إلى مقر جريدة “البصائر”، واتصلت في الطريق بعدد من الزملاء من رؤساء تحرير الصحف، لأبلغهم خبر وفاة العلامة الشيخ عبد الرحمن شيبان، وعندما وصلت مقر الجريدة كانت ساحة المبنى الذي يقع بـ17 شارع محمد مربوش بحسين داي، ويضم مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومقر مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية الجزائر، قد بدأ يمتلئ بجموع الشخصيات السياسية والدينية، والفكرية، والإعلامية، والمواطنين من كل الأصناف، الذين جاؤوا ليلقوا نظرة الوداع على جثمان فقيد الجزائر والأمة العربية والإسلامية.
كان الحاضرون يمثلون فسيفساء المشهد الوطني بكل تنوعاته، بمختلف الأطياف السياسية، والمشارب الفكرية، والفئات العمرية، كانت حركات التيار الإسلامي حاضرة بقوة إلى جانب التيار الوطني، وحتى العلماني، وفي ذلك عربون عرفان وتقدير لما عرف عن شيخنا الراحل عبد الرحمن شيبان من العمل الميداني، والدعوة الفكرية والقلمية إلى الصلح والإصلاح والمصالحة، إذ كان يجسد في شخصه البعد الديني باعتباره عالما وإماما وفقيها مجتهدا، والبعد الوطني باعتباره مجاهدا ومسؤولا في قطاعات حكومية هامة، والبعد الديمقراطي باعتباره كان عامل توازن وهمزة وصل بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة. ويشهد له الجميع أنه كان يؤلف بين القلوب، ويعمل مع مخالفيه بمقولة: “لنعمل في ما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه”..
لقد خرجت قرية الشرفة بدائرة أمشدالة ولاية البويرة في عصر يوم الجمعة 12 أوت 2012م عن بكرة أبيها لتودع ابنها البار إلى مقبرة سيدي عمار الشريف، وظل الناس يتحدثون بعد ذلك عن ضخامة الحشد الذي حضر مراسيم الدفن، المكون من شخصيات رسمية وشعبية، عن أجواء المهابة والخشوع التي خيمت على قرية الشرفة، وديار آل شيبان بهذه القرية المجاهدة.
وقد أشار فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في برقية التعزية التي بعث بها إلى آل شيبان، إلى خصال فقيد الجزائر، فقال: “انتقل اليوم إلى سبيل الحق والمغفرة بإذنه تعالى رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ عبد الرحمن شيبان، وفاضت روحه إلى بارئها في يوم من أيام الله المباركة، يوم الجمعة من رمضان الهدى والفرقان، وفي ذلك فضل من الله ومنة، إذ تخير لعبده من الأيام أفضلها، ومن الشهور أرفعها، ليكون من عباده المكرمين”.
كانت حياة الشيخ عبد الرحمن شيبان سجلا حافلا بالأمجاد وجلائل الأعمال، ونال عن جدارة واستحقاق لقب “حارس القيم”.
وعن علاقتي به، كنت بعد رحيله مباشرة، كتبت مقالا في جريدة “البصائر”، ويومية “صوت الأحرار” جاء فيه: “إن ما احتفظ به في ذاكرتي وفي صميم قلبي (عن سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان) هو صورة عالم جمع بين هيبة ووقار العلماء، وطرافة وظرف وانبساط الأدباء، صورة عالم مسكون بحب الجمال، ومولع بطلب الكمال، أنيق المظهر والتعبير، ولطالما اتصل بي في ساعات متأخرة من الليل ليقرأ عليّ صياغة جديدة لفقرة أو عنوان، كان قد دبجه في سانحة من سوانحه المعدة للنشر في “البصائر”، وكان دائما يوفق في استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى. كان شديد الحرص على أن يرتقي في أسلوبه التعبيري إلى أعلى مستويات القوة والدقة في المبنى، والجمال والعمق في المعنى. لقد وصفه صديقه الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو –عليه رحمة الله- بأنه: “بذرة ارستقراطية في تربة ديمقراطية”، وهو الوصف الذي يدخل في مجال السهل الممتنع، يلخص ميزة جوهرية في شخصية الشيخ الراحل، إذ لم أر الشيخ عبد الرحمن شيبان –رحمه الله- الذي كان شديد الوفاء لقناعاته ومبادئه يقدم على أخذ قرار معين في شأن من الشؤون العامة، إلا بعد استشارة واسعة، وحوار معمق مع المحيطين به، ومع كل من يتوسم فيهم القدرة على الإحاطة والإفادة في الموضوع.
لقد شرفني شيخي العالم الأديب المجاهد عبد الرحمن شيبان بأن سجل رأيه في شخصي الضعيف كتابة في إحدى سوانحه المنشورة بجريدة “البصائر”، في 24 جانفي 2009، وفي اليومية الوطنية “صوت الأحرار”، قائلا: “… رأيي في الأستاذ عبدوس في حقل الكتابة الصحفية هو أنه استجمع القيم الأساسية للصحفي الكاتب الناجح، ألا وهي: القيمة الخلقية، والقيمة الثقافية، والقيمة الفنية، فالله تعالى نسأل له العمر المديد، والعيش الرغيد، ومزيدا من الإنتاج الجديد، والتوفيق والتأييد…”
مرت سنة على رحيل العلامة الجليل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان، وأنا أشعر دائما بأنه ما زال حيا بحياة القيم الحضارية والمثل الأخلاقية، والفضائل الدينية التي دافع عنها دائما، كاتبا لامعا في البصائر، ثم إطارا إعلاميا بثورة التحرير الوطنية، ثم نائبا برلمانيا في المجلس الوطني التأسيسي بعد استرجاع الاستقلال، ثم مسؤولا وطنيا بقطاع التربية في الستينيات والسبعينيات، ثم وزيرا مؤثرا وفعالا في قطاع الشؤون الدينية في الثمانينيات، وأخيرا رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفارسها المكافح عن تاريخها ومبادئها. وفي كل هذه الميادين كان نجما ساطعا، ومناضلا صلبا.
فلا يسعني إلا أن أقول فيه ما قاله الإمام العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في ذكرى وفاة رفيق دربه الإمام الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس –عليهما رحمة الله ورضوانه-: “يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحية في الأرض قوة تحرك، ورابطة تجمع، ونورا يهدي”. فرحم الله شيخنا العلاّمة الجليل عبد الرحمن شيبان.