الحاجة إلى البناء الفكري لمسلم اليوم
توصيف حال:
تعاني أمتنا منذ قرون من تخلف حضاري جعلها رهينة حضارات أخرى، كما جعلها تفقد عزتها وسيادتها وريادتها. مما جعل المجددين في هذه الأمة يسعون إلى تجديدها والخروج بها من هذا التخلف الحضاري، ويسعون إلى تشخيص امراض التخلف، ووصف علاجات لها، وصياغة تصورات للنهضة المنشودة، لتستعيد الأمة وسطيتها وخيريتها.
وبالرغم من هذه الجهود المبذولة من مختلف مكونات الأمة وأعلامها ومجدديها لتحقيق النهضة الحضارية واستعادة الخيرية والوسطية، فإن النتائج لا تزال بعيدة عن المأمول. وهذا ما يدعو أبناء الأمة، كلٌّ في موقعه أن يسعى للبحث عن نقطة انطلاق حقيقية تخرجنا من هذا التبطل والتراوح في المكان.
الحاجة إلى ثقافة النهضة:
ولعل أمتنا أحوج ما تكون إلى بناء رؤية يتبناها جميع أبنائها، وتشكل نقطة مركزية في تفكيرهم وسعيهم، حتى تتوحد الجهود، ويختفي التناقض والاضطراب الذي ساد جهود الأمة المختلفة، وتجلى في النتائج والمآلات الخائبة لجهود التجديد.
هذه الرؤية تكون من خلال تبني مشروع النهضة، وزرعه في وعي الناس من خلال تحويل التفكير في النهضة والعمل لها والانشغال بها إلى ثقافة للأمة وشعوبها، وللعامة والخاصة. ولكن هذه الثقافة لتنتشر وتشكل المحيط الذي وعي الأجيال الجديدة، ينبغي أن يقوم على بناء وعي سنني يقوم على التعامل العلمي مع سنن الله في “الآفاق والأنفس والهداية والتأييد” كما يقول الدكتور الطيب برغوث. وذلك بأن نبني ثقافتها في مختلف ابعادها المعرفية، والروحية، والسلوكية والعمرانية كما اشار إلى ذلك مالك بن نبي والطيب برغوث وغيرهما من منظري المشروع الحضاري.
مركزية البعد الفكري في ثقافة النهضة:
وإذا سرنا في تحليلنا لأبعاد ثقافة النهضة المنشودة، فإننا نجد أن البعد المعرفي فيها مهم جدا، يتضمن تشكيل التصورات، وتحديد الرؤية الكلية التي يقيم وفقها الانسان حياته ويتطلع لما بعد حياته الدنيا. أي ان البعد المعرفي ركيزة اساسية جاءت رسالات الأنبياء لترسيخه وبنائه في بعده العقدي، والفكري، والمنهجي والنقدي وغيرها من الأبعاد.
ولعلنا في هذا المقال نخصص الحديث عن البعد الفكري، واهمية بناء عالم الأفكار في أمتنا، ونرجئ الأبعاد الأخرى لمقالات مقبلة بحول الله.
ولعل الجانب الفكري بما يتضمنه من فساد مناهج التفكير يعد من اهم المشكلات التي يعاني منها المسلمون اليوم. ذلك ان مسلم اليوم غدا عاجزا عن إنتاج افكاره النهضوية، وصار المسلم يفكّر له من أجل حلّ أبسط المشاكل اليوميّة التي تواجهه، رغم أن القرآن الكريم يحثّنا ويأمرنا على إعمال الفكر والتدبّر (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) [العنكبوت: 20]، و(ذلكم الله ربّكم فاعبدوه أفلا تذكّرون) [يونس: 3]، و(كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون) [البقرة: 73]، وغيرها من الآيات. هذا من جهة.
ومن جهة اخرى فإن سلوك الانسان ثمرة لتفكيره، والتصورات والأفكار هي من تنتج السلوكات، والأقوال تعبيرٌ عن تلك الاعتقادات التي يتمسّك بها الإنسان.
يورد الدكتور برغوث قولا للإمام عبد الحميد بن باديس في هذا الموضوع: يؤكد أن “سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطًا وثيقًا…لأنّ أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعرابٌ عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره و نظره”.
لهذا لا بدّ من تزويد المسلم المعاصر بمنظومة فكريّة صحيحة خالية من كلّ الأمراض الفكريّة التي أصابت العقل المسلم، فأزّمته وكبحت فعاليته في أن ينطلق ليحلّ مشاكله المعاصرة.
لأنه لا ينفع أمّة من الأمم اهتمامها ببناء عالم الأشياء من أجل أن ترتقي، بل إنّ الأمر النّافع لها هو بناؤها لعالم أفكارها، فإنّ الغنى في الأفكار يورث الغنى في الأشياء، ذلك لأنّ الشيء وليد الفكرة. وفي هذا يقول مالك بن نبي في تابه (ميلاد مجتمع) أنه لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من (أفكار). ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محواً كاملاً، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء(.
ويذكرنا مالك بن نبي بأن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بتلك الظروف التي تدمر فيها (الأشياء)، وهو ما حدث في روسيا ايضا بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد رأت الدولتان الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيها. حتى أتت على كل شيء تقريباً. ولكن سرعان ما أعادتا بناء كل شيء بفضل رصيدهما من الأفكار.
خاتمة:
وهذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه التاريخ؛ أي ان بناء الفكر وعالم الأفكار هو الأساس في عملية النهوض الحضاري لأي مجتمع، بمعنى أن بقاء نظام الأفكار سليمًا من “الأفكار القاتلة” و”الأفكار الميتة” ومتسما بالفاعلية هو ما يمكن الأمة والمجتمع من النهوض من جديد وتحقيق النهضة.