ان أهل التربية والتعليم المتخصصون المخلصون مُجْمِعُونَ على عدم تقديم صناعة الأجساد على حساب تزكية الأرواح وتنقية النفوس، وإن جُمع بين الحالين كان ذلك أجمل وأكمل، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، ولن يفلح قوم يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، و يسعون وراء كل وسيلة ترتقي بهم إلى شاهق التطور المادي، ولكنهم يذهلون- سهوا منهم أو مكرا – وهي الأحق بالاعتناء والتخطيط لما يصلحها و يهديها إلى سبيل الرشاد والفلاح..!
يروي الرواة أن الإمام مالك –رضي الله عنه-حين بلغ السن الذي يؤهله لطلب العلم، ويمكنه من التربع في حلقات العلماء للأخذ عنهم، قامت والدته المؤمنة بإلباسه أحسن الثياب ولفِّ العمامة حول رأسه ثم أرسلته إلى مسجد النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي كان جامعة للعلوم الإسلامية ، وبعد أن وجهته إلى حلقة الإمام ربيعة الرأي-رضي الله عنه نصحته قائلة – :” يا بني تعلم أدبه قبل أن تأخذ علمه”…
وما زلت أذكر مقولة الإمام الحسن البصري-رضي الله عنه-لبعض مريديه حين سألوه عن مسألة فقهية فأجابهم إجابة العالم المقتدر الذي لا يخشى إلا الله ، بيد أنهم أخبروه أن بعض علماء البصرة، ممن أخلدوا إلى الأرض بعد أن آتاهم الله آياته واتبعوا ما تتلوا الشياطين عليهم، قد خالفوه فيما ذهب إليه، وكان خلافهم عن هوى وغواية لا عن علم ودراية ، فقال لهم وهو يضحك ضحكا كالبكاء:”وهل هؤلاء من العلماء، إنما العالم من يخشى الله، فاقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور ﴾.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح هو : ما الغاية من التعلم والتعليم..!
أعرف أن الإجابات ستختلف بين المجيبين باختلاف توجهات ألبابهم، وتنوع أهواء قلوبهم، وليست كل الإجابات على الحق الذي يحبه الله ورسوله، لأن الحق واحد لا يتعدد، وصامد يتجدد، وخالد لا يتبدد، والباطل دروب متشاكسة، عرفها من عرفها, وجهلها من جهلها، ورحم الله الإمام المجدد عبد الحميد بن باديس الذي عرف الحق حقا ورُزق اتباعه، وعرف الباطل باطلا ورُزق اجتنابه، فأسس في بداية جهاده الإصلاحي مكتبا للتربية والتعليم، فانظر-يا من تقرأ هذه السطور يرحمك الله- إلى بصيرته النافذة وحسن تقديره، فقدَّم التربية على التعليم إشارة منه إلى أهمية الأولى في الثانية، إذ ما الفائدة من تخريج علماء في شتى الاختصاصات تعوزهم التربية الصحيحة التي تميزهم عن الجاهلين وتحفظ لهم دنياهم وآخرتهم، وما الفائدة من علم يبني الدنيا على حساب هدم الآخرة!؟
وهنا أحب أن أصحح مفهوما يختلط على البعض وهو تقسيم العلم إلى علم دنيوي وعلم أخروي، وهذا التقسيم لا توافقه الحقيقة في ديننا نحن المسلمين، لأننا نعتبر علوم الشريعة والعلوم الكونية كالطب والفزياء والكمياء والهندسة والجيولوجيا وغيرها كلها من علوم الآخرة، يتعلمها المسلم ليزداد معرفة بخالقه وقربا منه، ويسعى بهذه المعارف في سبيل الإصلاح وإعمار الأرض التي استخلفه الله فيها ساعة، قبل قيام الساعة.
إن أخشى ما أخشاه أن تصبح مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا مؤسسات تَبِيضُ أجيالا كالخشب المسندة، فارغة من الروح والمُـثل العليا، جانحة إلى الحياة المادية المترفة على مذهب الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، بعيدة عن الله الذي لا تذكره إلا لتسبَّه، غارقة في نوم عميق والخصوم حافين من حولها ليصيبوها في مقتل…
وأخوف ما أخافه أن ينشأ الشباب الجزائري على حين غفلة من أهله لا كما تـَمَثَّله فخر الجزائر بلا منازع الإمام محمد البشير الإبراهيمي-رحمه الله- في مقالته العصماء المشهورة “الشباب الجزائري كما أتمثله”، وإنما كما تـَمَثَّله ” ديغول ” و” لاكوست” و” لافيجري”… وتلك هي الطامة الكبرى .!