إن ابن باديس عند وضعه لمناهج التعليم، لم يكن مذهبه مثاليًا مبنيًا على تصورات نظرية، بل كان واقعيًا، أملته متطلبات العصر، وأولويات المجتمع ومعتقداته.
وعناية ابن باديس بموضوع التربية، ليست عناية الباحث المنظّر، الذي لا شأن له بالتطبيق العملي، بل كان يمارس ذلك كل يوم في حلقات الدروس في الكتاتيب والمدارس، وحتى في النوادي والأسواق.
وقبل أن نتطرق إلى رأي ابن باديس في إصلاح المناهج والبرامج الدراسية، نوضح أولاً مفهوم الإصلاح عنده، والمدارس التي أثّرت في منهجه التربوي.
يعرّف ابن باديس الإصلاح فيقول: (هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزالة ما طرأ عليه من فساد).. ويقول: (صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتداله في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال).
وقد لاحظ ابن باديس أن المناهج والبرامج المتبعة في زمانه، ليست في حالة اعتدال، سواء في صورتها أو مادتها، لإهمالها كثيرًا من المبادئ الخالدة التي جاء بها الإسلام، فهو يرى أنه (لن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته، فيما كان يعلّم صلى الله عليه و سلم، وفي صورة تعليمه).
ويرى ضرورة إعداد المناهج المناسبة لتنشئة أجيال المستقبل وتربيتها التربية الصالحة، موضحًا ذلك بقوله: (إن أبناءنا هم رجال المستقبل، وإهمالهم قضاء على الأمة إذ يسوسها أمثالهم، ويحكم في مصائرها أشباههم… ونحن ينبغي هنا أن نربّي أبناءنا كما علّمنا الإسلام، فإن قصّرنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا، ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعدّ الأبناء بعدّة الخُلُق الفاضل، والأدب الديني الصحيح).
ويحرّض ابن باديس رجال التربية في عصره على ضرورة إعادة النظر في البرامج التربوية، فيتساءل مستنكرًا: (فهل نعدّ منهجًا ينبت به أبناؤنا نباتًا حسنًا فيكون رجاؤنا عظيمًا، أم نستمر على ما نحن عليه فيضيع الرجاء؟ ذلك ما نُسأل عنه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم).
ويوضح في هذا السياق أهمية إصلاح تلك البرامج، مؤكدًا على الصبغة المتميزة التي ينبغي أن تكون عليها، فيقول: (فالتعليم هو الذي يطبع المتعلّم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره… ونعني بالتعليم: التعليم الذي يكون به المسلم عالمًا من علماء الإسلام، يأخذ عنه الناسُ دينهم، ويقتدون به فيه).
وكان أهـــل المغــرب يبعثون بأبنائهـــم إلى الكتاتيب منذ الصغــر، ولم تكن هناك سِنٌّ معينة يبدأ عندها الطفل في تلقي العلم، وإنما كان الأمر متروكًا للآباء، فمتى وجدوا أن الطفل بدأ في التمييز والإدراك أرسلوه إلى الكُتَّاب.
وأما طريقتهم في تعليم الصبيان في الكتاتيب، فيصفها العلامــة ابن خلدون بقوله: (فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث، ولا من فقه، ولا من شِعْر، ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه).
وظلت تلك الطريقة متبعة عند أهل المغرب إلى أن سقطت آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وهاجر الكثير منهم إلى شمال أفريقيا، فتأثر المغاربة بطريقة أهل الأندلس التي يصفها ابن خلدون بقوله: (وأما أهل الأندلس فمذهبم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسّه ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسّل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتاب.
هذه هي طــــرق أهــل المغـــرب وأهــل الأندلس، فمــاذا كانت طريقــة ابن باديس في ذلك؟
أما ابن باديس فلم يحدّد سنًا معلومة لالتحاق الطلبة بالمدارس، فكان من بين متعلميه من تناهز أعمارهم الثلاثين سنة.
وقد تأثر إلى حد كبير بالطريقة الأندلسية في التدريس وإصلاح التعليم، يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، واصفًا الطريقة التي ارتضاها وابن باديس لتربية النشء: (وكانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا في المدينة، في تربية النشء، هي ألا نتوسّع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة، ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا).
ومن قبل قال ابن خلدون: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين يكون مفيدًا لو تمّ ذلك بالتدريج شيئًا فشيئًا، قليلاً قليلاً، فيلقى على المتعلم مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب).
وكان ابن باديس رحمه الله يحرص على الكيف أكثر من حرصه على الكم، يرى التركيز على الفهم وإعمال الذهن وتشغيل قوى المخيلة، أكثر من شحن الذاكرة.
هذا بالنسبة إلى الطريقة المتبعة، أما بالنسبة لمحتوى المنهج فيوضّحه ابن باديس بقوله: (تشتمل الدروس على التفسير للكتاب الحكيم وتجويده، وعلى الحديث الشريف، وعلى الفقه في المختصر وغيره، وعلى العقائد الدينية، وعلى الآداب والأخلاق الإسلامية، وعلى العربية بفنونها كالمنطق والحساب وغيرهما).
أما التفسير، فقد تصدّر هو بنفسه لتفسير كتاب الله العزيز الحكيم، وأما الحديث فمن (موطأ الإمام مالك)، والفقه من (أقرب المسالك)، و(رسالة ابن عاشر)، والعربية من (قَطْرِ النَّدَى)، والشعر من (ديوان الحماسة وديوان المتنبي)، إضافة إلى تدريس (مقدّمة ابن خلدون)، وتعليم الطلبة بعض الصنائع اليدوية.
وعلى هذا، فهو يقسم العلوم إلى صنفين:
علوم مقصودة لذاتها: كالتفسير والحديث والفقه والعقائد، وعلوم آلة كالعربية والحساب وغيرهما، ولم توضح آثار ابن باديس تفصيل برامج المستويات المختلفة، سوى أنها تشير إلى أن المتعلمين كانوا على أربع طبقات.. ويتبين من خلال ما ذكرناه أن ابن باديس كانت له طريقة خاصة في التعليم، فظروف الاستعمار لم تسعف الصبيان في الالتحاق بالكتاتيب والمدارس في السن المناسب، فاحتضنهم ولم يحرم منهم أحدًا من طلب العلم رغم تباين أعمارهم.
إلى جانب ذلك نراه جمع بين طريقة أهل المغرب في تركيزه على القرآن الكريم، الذي هو كتاب هداية للبشرية، وأساس تعليم الدين والتفقه فيه، وبين طريقة أهل الأندلس في تعلم الشعر وقوانين العربية، إضافة إلى إثراء برامجه بمادة الحساب والصنائع اليدوية، لأهميتها اللازمة للكسب والعمران، مشيرًا بذلك إلى ضرورة ربط المواد الدراسية بحاجات المجتمع ومتطلباته.
وقد أرشد ابن باديس إلى الاستفادة من خبرات المعلمين، والأخذ بآرائهم في ما يهمّ التعليم ومدارسه ونظمه وأساليبه، بغية التوصل إلى توحيد مناهج التعليم وترشيده.
ودعى في رسالته التي وجهها إلى رجال التربية والتعليم في الجزائر، إلى عقد مؤتمر عام لتبادل الآراء والخبرات في مجال التربية، قصد تحسين وتطوير الجوانب التالية:
– أســــلوب التعــــليـــــم.
– أسلوب تربية الناشئة.
– طريقة اختيار الكتب.
– تعليم البنت المسلمة ووسائل تحقيقه.
– وسائل تنظيم وترقية التعليم المسجدي.
إضافة إلى الاستفادة من خلاصة تجاربهم في مجال التربية والتعليم.