النهي عن استفزاز الكفار: بين الثكلى والنائحة المستأجَرة
لا أظن أن استفزاز مَن لا يدين بديننا نهجٌ للنبوة، نُندب للسير على منواله، وبخاصة حين يكون هذا الكافر في حالة مواجهة، يكون فيها ميزان القوة لصالحه، ومراغمة مثل هذا الوضع يستشكله العاقل الذي لا يهتدي بهدي، فإن أسعفه وأخلّ به فطيش أو حماقة، قد يدفع ثمنها مَن وراءه، ممن يحملون فكرا يسعون للتبشير به، أو مشروعا يشفقون على ضياعه، على يد نصير متعجل، أو تابع متهوِّر.
قال الحافظ ابن كثير (3/314) عند قوله تعالى:{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ..}:” يقول تعالى ناهيا لرسوله، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين عن سب آلهة المشركين -وإن كان فيه مصلحة- إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو”. والمعنى الذي لا ينبغي أن نتجاهله هو أن التحسّب لأعمال الآخرين -أو ردود أفعالهم- أمر مقبول ومشروع، ومعناه أيضا أن يقال: ليس لأحد أن يتصرف بمفرده -فيما يعتبره أمرا أو نهيا- إن كان أمره أو نهيه قد يفضي إلى مفسدة تفوق في آثارها المعروف المرجوّ حصوله، أو المنكر المأمول زواله.
أخرج البخاري (6/87) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى:{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قال: ” نزلت ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تُسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}”.
وأخرج البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، بعد حديث ابن عباس مباشرة قالت: “أُنزل ذلك في الدعاء”.
تشترك الآية والحديث في التحسّب لأفعال المخالفين، وما قد ينجرّ عنه القول أو الفعل من منكر أشدّ أو أذى يترجّح، غير أن في الحديث ملمحا يزيد الأمر وضوحا، ففي حين تنهى الآية الكريمة عن سبّ المشركين مخافة أن يردّوا بالمثل، يأتي الحديث لينصّ على أمر بدا -قبل نزول آية الجهر- أن للمسلمين كامل الحرية في أن يفعلوه أو لا يفعلوه، إذ ليس فيه تعريض بمشرك أو عقيدته، وأوضحت الآية أن هذه الحرية قد تُقيَّد بالنهي عن قول أو فعل، إذا أدّت بدورها إلى إلحاق الأذى بالمسلمين، قال ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح (3/72): “في هذا الحديث دليل على أن المحقّ إذا خاف من ذكر الحق جهرًا أن يجلب أذى أو يقابله العدو بمنكر أبيح له إخفاء قوله..”
ولا ينبغي أن يفوت القارئَ أن آية النهي عن السبّ وردت بصيغة الإطلاق، بحيث يشمل النهي الزمانَ والمكان، وأن الجهر المنهيّ عنه -في حديث البخاري- خوطب به المسلمون وهم في موطنهم مكة، الذي يشتركون فيه مع مشركيها، ومع ذلك طُلب منهم ألا يستفّزوهم برفع الصوت بالقرآن، حتى لا يسمعوا سبا لله ولرسوله وللقرآن الذي جاء به، فما بال أقوام اليوم يعيشون في بلاد الغرب -مقيمين أو لاجئين- يصرّون على إظهار شعائر الدين وطقوسه في الأعياد والمناسبات المختلفة، وكثير من المواطنين يُظهرون التبرّم والضيق بهذه الشعائر، وتنبري بعض وسائل إعلامهم تنديدا وتشهيرا بهذه الشعائر، وإذا كانت النصوص السابقة تدعو إلى التبصّر في استعمال الحق مع المخالفين، أفلا يكون حريا بالمسلمين أن يراعوا هذا الأمر وهم ضيوف على مَن لا يدينون بدينهم؟ أمّا إذا وصل الاستفزاز إلى حدّ الإضرار بقتل أو تفجير فلن تقف ردود الفعل عند حدود السبّ والانتقام قطعا، بل تتعداه إلى ما أصبح يُسمى بالإسلاموفوبيا، حيث تبلغ مرحلة الإيذاء مداها، ويحصل من المفاسد التي تلحق بالدين وأهله ما الله به عليم، وما نراه اليوم من وصم الإسلام كله بالإرهاب، ولا شكّ أن مزاج العداء الذي تُحدثه هذه الأفعال يحول دون وصول صوت الحق إلى البسطاء من الناس، الذين يرهنون أنفسهم للدعاية الإعلامية، وبالرغم من هذه الأجواء يغامر بعض الأحرار في الغرب بالدخول في الإسلام، ولو أن المسلمين تمثّلوا الإسلام حقيقة لأقبل الغربيون عليه إقبالا منقطع النظير، وهنا يكمن الفرق بين التمثّل المكلف، الذي يقتضي صبرا ومجاهدة في سبيل فكرة أو مشروع، وبين ادعاء مَن أرهقت كاهله الذنوب، فقرّر -أو قُرِّر له- في لحظة ما أن يمسح ذنوبه، وأن يلتحق بمباهج من نوع مختلف بإزهاق نفس بغير حق، أو بترويع أقرب الناس إليه! إذ ليس لديه ما يخسره، أما ما يخسره الآخرون بطيشه فلا علاقة له به، وهنا يكمن الفرق بين الثكلى وبين النائحة المستأجرة.