الغشّ والخيانة في “باكالوريانا” المُهانَة بقلم أ.د عبدالرزاق قسوم

رحمَ الله أيّام زمان، يوم كان جيلنا الذّهبيّ الأبيّ من أبنائنا الصاعِدين، يغضي حياءً، ويتقّد ذكاءً، ويفيض وفاءً. كان يُقبِل على العلم “إقبال شحيح ضاع في التُّربِ خاتمه” فيبذل النفس والنّفيس من أجل تحصيل المعرفة دون وسيط أو محاباةٍ أو تكلفةٍ.
واليوم أتَى على جيلنا الصّاعد حين من الدّهرِ، صار فيه الشابَ المتعلِّم “راغبُ علامة” دون فهامَة أو شهامة أو استقامة، وما ذلك إلاّ لضعُف الطالِب والمطلوب؛ فلا التلميذ تلميذ في معهدِه، ولا الأستاذُ أستاذٌ في مهابته ومقعده، ولا المنظومة منظومة في علمِها ومنهجها، ومقصَدِها.
سُبحانك مغيّر الأحوال، مسخت منظومة ابن باديس التربوية، فنقلتها من المعدن العلمي النّفيس لتصبحَ أداةَ تلاعُب بين البئيس والتعيس من هؤلاء العتاريس، الذين ينشرون الدرر أمام عِتر لميس. ففقَد الامتحان إذن قُدسيتَه، والتعليم عذريتَه، والدبلوم –في كلّ مستوى- فوقيتَه ونسقيتَه.
نقول هذا، وقد انفجرت الفضيحة الكبرى، في وجهِ أحرارنا وحرائرنا، وفي عمق عقولنا وضمائرِنا، فضاع الحصاد، وساد الكساد، وخسرَ البلاد والعباد. إنّ كلّ هذا إنّما بدل على خطأ المقدّمة، التي أدّت إلى فساد النتيجة.
فما وقع الغشّ بقدسية الامتحان، إلاّ يومَ غابت التربية الخُلقية من المنظومة، وفقدت القيمة من المعلومة، ونشرت العلمانية برذائلها، وإباحيتها باسم برنامج الحكومة، بوضع منظومة مزعومة.
فيوم حذّرنا الأمّة، في نداء جمعية العلماء مما يُكاد لهذه المنظومة التربوية من كيد الكائدين، وصيد الفاسدين، وختل الحاقدين، جوبهنا من الناطقين باسم هؤلاء بأنّنا بعثيون، ومحافظون، ومتعصّبون، ومنحرفون عن الرّوح الباديسية الأصيلة، وهاهي ذي أعراض فضيحة الباكالوريا التي كشفت المستور، وأبرزت المحظور، وأظهرت الفاعل المستَتِر والمنظور.
فهل هذه الفضيحة، المتمثِلة في الغشّ والخيانة، وتسريب الأسئلة، هل هي فعل مفرد أو جمع؟ وهل هي فعل مُرَبين أو منتمٍ بالسّمع، دأبه الكيد أو الطمع؟.
وأين الضمير المهني في كلّ هذا؟ وأين الوازِع الخُلقي في هذا الفعل المخّل، ولماذا؟.
أتدرون لماذا نُطالِب بإسناد منظومة التربية –دومًا- إلى المربين الحقيقيين، المتشّبِعين بالخُلق الوطني، والدّيني المقتنعين؟ ولماذا نلّحُ على عدم إفراغِ المنظومة التربوية من القيمة الإنسانية، في شموليتها الوطنية، والخلقية، والدّينية، لأنّا نريد تحصين الذات من داءِ الخيانة، وتوعية العقل بضرورة الحفاظ على الأمانة، وعصمة المواطن بمقومي الوطنية والدّيانة؟..
وليدرِك الجميع، بأنّنا –يشهد الله- ليس بيننا وبين وزيرة التربية أيّ خلافٍ شخصي! فنحن على ما قد يكون بيننا وبينها من تباين في النظرة إلى مفهوم التربية، أو اختلاف معها في تصوّرها للتربية الدينية، أو الوطنية، فإنّنا ندين لها بالاحترام، كمواطنة وكمسؤولة في دولتنا، لكن الخلاف الحقيقي معها، يبدأ من قضايا جوهرية، أهمّها:
1- أنّ التربية الوطنية هي مشروع المجتمع، لا يحِقّ لأيٍّ كان أن ينفرد بصنع أو وضع معالمه.
2- أنّ التربية هي مستقبل جيل بكامله، وبالتالي مستقبل الوطن بجميع مكوّناته، ولذا وجبَ إسنادُ مهمّة صنعه إلى الرّاسخين في الوطنية، والقيمة الخلقِية، والعراقة الدينية، لننشئ جيلاً متوازن القِوى، متكامل الملكات يطبعه الوفاء للآباء، وللشهداء، والعلماء، الذين كانوا سببًا في إيجاد أصول المنظومة التربوية في جزائر العزّة والكرامة.
3- إنّ محاولة الفصل بين المنظومة التربوية والأصول الدينية والوطنية عمل إجرامي كمحاولة الفصل بين الجسد والرّوح، وتلك هي الجريمة التي لا تُغتفر.
إنّ ما نتخبط فيه من إجرام إنساني، وآفات اجتماعية، واعتداء للفروع على الأصول إنما هو نتاج تغييب التربية بجميع مكوّناتها من المنظومة، وتغييب الدّين الصحيح من حياة المواطن الجزائري، وما لم نُعِد هذا المواطن إلى دينه، بفهم صحيح، وتطبيق فصيح، فستزداد المأساة عمقًا، ويتضاعف الوبال سحقًا.
وربّ ضارّة نافعة، فإنّ فضيحة الغشّ والخيانة في باكالوريتنا المهانة، قد تكون هي الموقظة لنا من أوهامنا، فنفتح أعيننا على الواقع الصحيح، وهي أنّنا أمام نموذجين للمجتمع، النموذج التغريبي، الذي يدعونا إلى استئصال جذورنا، باسم الحداثة، والتنكّر لماضينا، باسم “الدياثة”، وجعلنا مذبذبين باسم الخبث والخباثة.
وهناك نموذج وطني، أصيل يربط في حكمة ومنطقية باسم الوطنية والدّين، فيؤكِد على أنّ مئة وثلاثين من المقاومة، وسبعة سنين من العمل المسلّح، ومليون ونصف مليون شهيد، كلّها كانت من أجل تثبيتنا على الثوابت، وحفاظنا على الذات.
فإذا أردنا حقًا، لمنظومتنا التربوية النّماء والبقاء، والسّداد والرّشاد، فلا بدّ من إسناد الأمور إلى الرّاسخين في العلم والوطنية، والدين، كي نعيد بناء الجيل الصاعد وفق منهج تربوي معتدِل، متسامح، يستلهم قيمَه الإنسانية من أصالتِنا، وهوّيتنا، وتاريخنا، ويأخذ من التجارب الإنسانية النّاجحة بدء بالدوّل الاسكندنافية، وانتهاء بالتجربة الفرنسية، كلّ ما هو جيّد وفعّال فيها.
اللّهم إنّنا قد بلّغنا، فاللّهم فاشهد!.