شهـــر شعبـــان..وتحويــل القبلـــة بقلم الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة

الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة خطيب المسجد الأقصى المبارك
عيش المسلمون في هذه الأيام في ظلال شهر كريم هو شهر شعبان، وشهر شعبان يقع بين شهرين عظيمين، هما: رجب ورمضان، فقد ودعنا شهر رجب الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما نعيش الآن أياماً مباركة في ظلال شهر شعبان الذي شهد تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهذا يدل دلالة واضحة على الرابطة القوية بين المسجدين.
ومن المعلوم أن شهر شعبان حافل بالذكريات الإسلامية العظيمة، ومنها:
* هو الشهر الذي انتصر فيه المسلمون بقيادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في غزوة بني المصطلق.
* وفيه تزوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما-.
* وفيه فُرِض صيام شهر رمضان المبارك على المسلمين.
ولكن أبرز حدث وقع فيه هو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
إن لربنا في دهرنا نفحات، تُذكرنا كلما نسينا، وَتُنبهنا كلما غفلنا، فهي مواسم للخيرات والطاعات، يتزود منها المسلمون بما يُعينهم على طاعة الله سبحانه وتعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(1).
إن نفحات الخير تأتينا نفحة بعد نفحة، فإذا ما انتهينا من أداء الصلوات المفروضة، تأتي النوافل المتعددة المذكورة في كتب الفقه، ولئن أدينا الزكاة المفروضة فإن أبواب الصدقات مفتوحة طيلة العام، ولئن أدينا فريضة الحج فإن أداء العمرة مُيَسّرٌ طيلة العام، ولئن أدينا فريضة الصيام فإن صيام النوافل موجود طيلة العام، وهكذا الخير لا ينقطع وهذا فضل من الله ونعمة .
لذلك يجب علينا أن نواظب على الطاعة في كل وقت، وأن نحرص على التزود بالتقوى، فنحن مخلوقون لعبادته وطاعته سبحانه وتعالى، امتثالاً لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }(2).
تحــويل القبـلة
ودَّعنا شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، وقد تجلَّت فيه أعظم رحلة في الوجود وهي رحلة الإسراء والمعراج، وها هو شهر شعبان يأتي ومعه ذكرى تحويل القبلة، ففي شهر شعبان يتذكر المسلمون تحويل قبلتهم من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، يتدبرون فلسفة الإسلام تجاه توحيد القبلة والوحدة الإسلامية، كما يُدرك المسلمون أن تحويل القبلة لم يكن حدثاً عابراً، إنما كان معلماً تاريخياً عظيماً وتوجيهاً دينياً بليغاً، يحمل ذكرى الماضي ويوضح منهج الحاضر والمستقبل للرسالة الخاتمة ويفيض مؤكداً صدق الرسالة والرسول، ومن عِبر هذه الذكرى أنها كانت بياناً عملياً عن استقلال شخصية الأمة الإسلامية وأنها أمة متبوعة لا تابعة، وهي دليل على أنه – صلى الله عليه وسلم – لا يتبع إلا ما يُوحى إليه، فقد كان تطلعه أن توجه القبلة إلى الكعبة حتى وجهه الله إليها لتكون وجهة المسلمين حتى قيام الساعة.
ومن المعلوم أن المسلمين ظلوا يستقبلون بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً منذ هاجر المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لما ورد عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: (صَلَّيْنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شَهْراً أو سبعةَ عشر شهراً ثم صُرِفْنَا نحْوَ الكعبة )(3)، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُحِبُّ أن يُحَوّل نحو الكعبة، فنزلت:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}(4)، فَصُرف إلى الكعبة.
ومن الجدير بالذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قبل ذلك يُصَلِّي إلى بيت المقدس، كما كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قبله يُصلّون، وكان وهو في مكة يحاول أن يجمع بين الأمرين، فكان يُصلّي بين الركنين: بين الحجر الأسود والركن اليماني، فتكون الكعبة أمامه ويكون أيضاً بيت المقدس أمامه، ولكنه تعذَّر عليه ذلك حينما هاجر إلى المدينة المنورة، فكان يتمنى من قلبه أن يُوَجَّهَ إلى قبلة أبيه إبراهيم–عليه الصلاة والسلام-، لأنه- صلى الله عليه وسلم- ( كان يُحِبُّ أن يُحوَّل نحو الكعبة، وينظر إلى السماء دون أن ينطق لسانه بشيء، حتى هيّأ الله له ما أحبَّ ورضي، ونزل في ذلك قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا…})(5).
إن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة يشتمل على درس مهم، وهو الصلة الوثيقة بين المسجدين الشريفين، حيث ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الأولى التي افْتُتِحَتْ بها سورة الإسراء كما في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(6)، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض، كما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري– رضي الله عنه- قال: “قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: “اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ”، قَالَ: قُلْتَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: “اَلْمَسجِدُ الأقْصَى”، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً) (7).
ليلة النصف من شعبان ورفع الأعمال
لقد بين لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فضل أوقات معينة، منها شهر شعبان عموماً وليلة النصف منه بخصوصها، لأسباب صرَّح بها ومنافع دعا إلى اكتسابها، فليلة النصف من شعبان ليلة مباركة جليلة، يتجلى الله سبحانه وتعالى فيها على عباده بالرحمة والمغفرة.
ففي هذه الليلة يستجاب الدعاء، وَتَعُمّ المغفرة، وتهبط الملائكة على أهل الأرض بالرحمة، ولله فيها عتقاء كثيرون من النار، حيث ينظر الله سبحانه وتعالى إلى عباده، فيغفر للمستغفرين، ويتجاوز عن سيئات التائبين، ويجيب دعوة المضطرين الصادقين المخلصين.
ومن المعلوم أن الله -عز وجل- يعفو عن عباده في هذه الليلة المباركة الطيبة، ولا يُحْرَم من عفو الله ورحمته إلا الذين هم على الخطايا مُصِرُّون، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إنَّ اللهَ لَيطَّلِعُ في ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِهِ، إلا لِمُشْركٍ أو مُشاحِنٍ)(8)، أما المشرك: فلقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}(9)، وأما المشاحن: فهو الذي تكون بينه وبين أخيه المسلم شحناء وخصومة، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)(10) .
اللهم بلغنا رمضان
أخرج الإمام البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ)(11).
ورد في الأثر أن: (الدعاء هو العبادة ) وقيل أيضاً: إن (الدعاء هو مخ العبادة )، لذلك كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يدعو بهذا الدعاء؛ لمعرفته اليقينية بما في شهر رمضان المبارك من نفحات الخير، لذلك يتوجب على المسلمين الاستعداد لشهر رمضان المبارك الذي جعله الله سيد الشهور، وأفاض فيه الخير والنور، فهو من أوفرها خيراً، وأكثرها بركة، وأعمها نفعاً ورحمة للعالمين، إنه شهر الخير والبركة، شهر رمضان المبارك، شهر التسابيح والتراويح، شهر الصيام والقيام، شهر الهُدى والفرقان، فهو شهر كريم وموسم عظيم، فما أحوجنا لاستقباله بقلب سليم وعهد جديد .
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش:
1- سورة البقرة، الآية (197).
2- سورة الذاريات الآيات (56-58).
3- أخرجه البخاري.
4- سورة البقرة، الآية (144).
5- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/264.
6- سورة الإسراء الآية(1).
7- أخرجه البخاري.
8- أخرجه ابن ماجه.
9- سورة النساء الآية(116).
10- أخرجه مسلم.
11- أخرجه البيهقي