رحيل الدكتور بوعمران الشيخ الموسوعة الفكرية، ونموذج التواضع والحكمة بلقم أ. عبدالحميد عبدوس

أ.عبد الحميد عبدوس
رحل المفكر الفيلسوف الدكتور بوعمران الشيخ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عن عمر ناهز 92، عمر مديد قضى أغلبه في العطاء الفكري ونشر العلم والمعرفة، بين تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات الجزائرية، ولعل من اللافت للانتباه ان تكون من بين آخر التكريمات الكثيرة التي حظي بها الدكتور بوعمران في حياته الحافلة والناجحة تكريم قدماء تلاميذ المؤسسة التعليمية الكائنة في حي باب الوادي بمنحدر “لوني ارزقي” باعتباره كان مدرسا فيها ما بين 1950 و 1956 خلال الفترة الاستعمارية، وقد اجمع، في تلك المناسبة، تلامذة الشيخ بوعمران القدماء على ابراز القيم المهنية والانسانية التي تحلى بها استاذهم السابق الذي كان بالنسبة لهم مدرسا وابا ينصحهم و يدعمهم.
لم يسعدني الحظ بالتتلمذ المباشر على الدكتور بوعمران، ولكن منذ تعرفت عليه في ثمانيات القرن الماضي في اتحاد الكتاب الجزائريين، لم تنقطع علاقتي به، وقد تشرفت عند توليه رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى باهتمامه بكتاباتي وتشجيعه المتواصل لي بطباعة بعض مؤلفاتي ضمن منشورات المجلس الأعلى، وتنظيم ندوة في مقر المجلس لعرض كتابي (تأملات في اللحظة الحرجة) أمام المدعوين من رجال الفكر والثقافة وممثلي عناوين الصحافة الوطنية.
لقد استطاع الراحل الدكتور بوعمران تحويل المجلس الإسلامي الأعلى الذي ترأسه لما يقارب 16سنة من 31 ماي 2001 إلى غاية وفاته في 12 ماي 2016 م، إلى مؤسسه دينية وفكرية وثقافية ناشطة، وإلى جانب إشرافه على تنظيم العديد من ملتقيات الفكر الإسلامي ذات المستوى الراقي بمشاركة علماء ومفكرين وباحثين من العالم العربي والإسلامي، بل من أروبا والولايات المتحدة ،وأمريكا الجنوبية، كان له الفضل أيضا في طباعة مئات الكتب لمفكرين وعلماء وباحثين وأدباء وإعلاميين من الجزائر العالم الإسلامي خاصة، ومن بقية دول العالم عامة، وكانت تلك الاصدارات التي يقوم المجلس الاسلامي الأعلى بنشرها، ومنها كتاب الراحل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان (حقائق و أباطيل) توزع مجانا على مختلف الهيئات والمؤسسات العلمية كالجامعات والمكتبات العمومية، وكذا الزوايا.
وعلى ذكر الشيخ شيبان فكثيرا ما كانت مواقف وآراء الراحلين الدكتور بوعمران الشيخ، وسماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تلتقي وتتساند في الدفاع عن القضايا الأساسية المتعلقة بالثوابت الوطنية والهوية الحضارية للشعب الجزائري، وقد ساهم كل منهما بما يمثلانه من وزن فكري وديني واجتماعي برأيهما في الجدل المحتدم مع التغربيين من سياسيين ومفكرين وإعلاميين وقانونيين الذين كانوا يحاولون في المجالات الإدارية والقانونية والتشريعية سلخ الجزائريين عن دينهم، وعلى سبيل المثال كانت قضية المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام التي رفعها بعض التغربيين وتصدى لها الشيخ شيبان بالرفض لمصادمتها نصوص صريحة وقطعية الدلالة في القرآن والسنة، وكذلك التصدي لحملات التنصير، وفرض خلع الحجاب على النساء بالنسبة للصور البيومترية المستعملة في بعض الوثائق الإدارية، ويمكن القول أن مواقف الشيخ شيبان، والدكتور بوعمران كانت متطابقة في هذه القضايا الحساسة، وبخصوص قضية إلغاء عقوبة الإعدام قال الدكتور بوعمران إنه لا يمكن الغاء عقوبة الإعدام في كل الحالات باعتبار أن القصاص من صميم الدين الإسلامي، وأن تطبيقها من عدمه يعد من صلاحيات المحاكم التي تقدر ظروف وملابسات وقوع الجريمة. غير أنه بكل الأحوال لا يمكن قبول إلغاء مادة من الشريعة.
في سبتمبر2008 أكد الدكتور بوعمران خلال رئاسته للدورة السادسة والثلاثين للمجلس الإسلامي الأعلى على الخطورة التي تكتسيها ظاهرة تنصير الشباب على المجتمع الجزائري، ودعا إلى ضرورة التصدي لها ومواجهتها، حسب ما يقتضيه القانون. كما ندد بالاستفزاز الذي يتعرض له المسلمون عن طريق إعادة نشر الرسوم المسيئة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا المسلمين للرد على هذه الحملة العدوانية بمختلف الوسائل وبالتي هي أحسن.
و في مارس2009 قال في افتتاح ملتقى(التسامح في الإسلام) إن من أهداف الملتقى: “الرد على الذين يهاجمون الإسلام في الصحافة والوسائل الإعلامية الأخرى وينسبون إليه خطأ ما ليس فيه من صفات قصد الإساءة إليه وتشويه صورته..”
وفي مارس2010 قال في افتتاح ملتقى (الإسلام والعلوم العقلية بين الحاضر والماضي) إن الملتقى يهدف إلى تصحيح الحقيقة التي شوهها الغرب بالتنكر لإسهام الحضارة العربية الإسلامية في الفكر الإنساني”.
وأضاف: “في المدة الأخيرة وصلنا عدد من المقالات والكتب الأجنبية تساءل أصحابها: هل الإسلام منسجم مع العقل و يعتمد عليه؟ هل ساهم الإسلام في الحضارة العالمية فعلا أم نقل فقط ما وصله من حضارات أخرى؟ إن هذا النوع من الأسئلة يعني قلة الإطلاع على الثقافة الإسلامية بداية ظهورها إلى اليوم وغياب الاهتمام بها من قبل بعض الباحثين والعلماء والإعلاميين خاصة في العالم الغربي…”
وأشار بوعمران إلى تهكم بابا الفاتكان الحالي على الإسلام في محاضرة بالجامعة الألمانية ريغينسبورغ في 12 سبتمبر/أيلول 2006، وإلى كتب أوروبية زعمت أن قسا نقل العلوم والفلسفة من اليونانية إلى اللاتينية في القرن 12، وأضاف: “نحن نقدم تاريخنا العلمي بمراجع عالمية لا يرقى إليها الشك”.
وبخصوص ادعاء بعض وسائل الإعلام بأن رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الدكتور الشيخ بوعمران لا يرى مانعا من ظهور النساء المحجبات من غير خمار في صور الوثائق البيومترية مثلما هو محتمل، معتبرا ذلك ضمن إملاءات العولمة “هناك أمور تأتينا من العالم نأخذ بها”.
فلم يتأخر الدكتور الشيخ بوعمران في إصدار نفى قاطع، بخصوص عدم معارضته كشف المرأة الجزائرية لأذنيها وشعرها، لاستخراج جواز السفر البيومتري وبطاقة التعريف الوطني مؤكدا أن ”الحجاب فرض على المرأة المسلمة”. وقال الشيخ بوعمران إنه ”ليس الحجاب هو الذي يُحصّن المرأة فقط، وإنما أيضا تقواها وسيرتها”. وأوضح أن وزارة الداخلية التي أصدرت القرار لم تستشره في الموضوع.
كما انتقد نفاق الدول الغربية التي تدعي الديمقراطية واحترام الآخر والدفاع عن حقوق الإنسان في أنها تسمح للمرأة المسيحية واليهودية بتطبيق مبادئ دينها من خلال سترها لرأسها وشعرها وأذنيها في الصور “البيومترية”، بينما تمنع المسلمة من ذلك.
هذه بعض المواقف والآراء التي كان يعبر عنها الراحل الدكتور بوعمران الشيخ برزانة المفكر ودماثة خلق عالم مسلم، ولكن بصرامة لا تقبل التنازل عن الحق .
هذا ، إضافة إلى ما كان يتحلى به من سعة أفق وعمق تفكير وثراء في الإنتاج الفكري
ولعل هذا ما جعل الدكتور محمد علي بوغازي المستشار لدى رئاسة الجمهورية يقول في مناسبة تأبينية الشيخ بوعمران: “… إن الراحل كان موسوعة فكرية مختصّة في إنتاج وتحديد المفاهيم التي تحتاجها الأمة في إدارة قضاياها وشؤونها؛ فأبو عمران الشيخ لا يقلّ في زماننا شأنا عن ابن خلدون وابن رشد وغيرهم من العلماء والفلاسفة”.