غير مصنف
المنظومة التربوية.. الإصلاح بفرْنَسة المواد العلمية! بقلم أ. حسين لقرع
ما يُحضّر له هذه الأيام في قطاع التربية بعنوان “الجيل الثاني من الإصلاحات” لا يبعث قطّ على الارتياح؛ فهناك غموضٌ كبير يكتنف العملية، وتعتيمٌ وتضليلٌ كبيران يمارسه مسؤولو القطاع وفي مقدِّمتهم الوزيرة نورية بن غبريط لتخفيف وقعه على نفوس الجزائريين وتجريعهم السمّ قطرة بعد قطرة، وعلى مدار سنواتٍ عديدة من الآن، إذ ستكتفي وزارة التربية بـ“إصلاح” مقرّرات وبرامج السنتين الأولى ابتدائي والأولى متوسط، بإدخال كتب جديدة بمضمون جديد لم تكشف عنه، والبقية “ستُصلح” بالتدريج في بداية كل موسم دراسي…
المتتبّع لتصريحات مختلف مسؤولي وزارة التربية لوسائل الإعلام الوطنية، يتأكد أن الوزارة تُخفي حقيقة “الإصلاحات” المزعومة عن الجزائريين وتريد الإسراعَ في إنجازها والشروع في تنفيذها تدريجياً ابتداءً من الموسم الدراسي 2016- 2017، أي ابتداء من سبتمبر المقبل، وهذا بهدف وضع الجزائريين أمام الأمر الواقع، وحملهم على قبول هذه “الإصلاحات” و“التعايش معها”، إلى آخر مرحلةٍ منها.
كل ما قدّمته الوزيرة بن غبريط وكبار مساعديها مثل نجادي مسقم، وعادل فريد…لم يُطمْئِن الجزائريين: فإذا كانت هذه “الإصلاحات” عادية وتطوّرا طبيعيا يواكب ما يحدث في العالم من تطورات على الصعيد التربوي والعلمي، كما يقول مسؤولو الوزارة، فلماذا قاموا بتحضير “الجيل الثاني من الإصلاحات” في سرّيةٍ تامّة ورفضوا إشراكَ القواعد التربوية فيها، من معلمين وأساتذة ومفتّشين…؟ هل مثل هذه المسائل تندرج في إطار أسرار الدولة والدفاع الوطني حتى تقتضي السّرية التّامّة وإخفائها عن عامّة الجزائريين؟
وما يثير الريبة أكثر ويغذّي الاعتقاد السائد بأن بن غبريط تريد فرنَسة التعليم تدريجياً، وتقدّم ذلك على أنه “جوهر الإصلاحات” المزعومة، هو قيامها بإلغاء الاختيار بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية في مسابقة الأساتذة القادمة، والدوس على قانون 2009 من خلال إلغاء الامتحان في الإنجليزية وفرض اختبار الفرنسية على كل المرشحين لمسابقات الأساتذة مستقبلاً، وهذا يعني بوضوح أن الوزيرة تريد إدخال الفرنكفيليين بقوة إلى قطاع التعليم استعداداً لفرْنسة المواد العلمية في التعليم الثانوي مستقبلاً، ثم المواد نفسها في التعليمين الابتدائي والمتوسط، وهذا بذريعة أن الناجحين في البكالوريا يجدون صعوباتٍ كبيرة في دراسة العلوم الدقيقة في الجامعة باللغة الفرنسية، ولابد من فرْنسة المواد العلمية في الطور الثانوي ثم الطورين الآخرين تدريجياً، لتحضير التلاميذ للدراسة بالفرنسية وحدها في الجامعة، وليس هناك من يقوم بهذه المهمّة أفضل من الأساتذة الذين يتقنون الفرنسية، وهذا هو سرّ فرض الفرنسية كمادة إجبارية في مسابقات الأساتذة التي سيجد فيها أنصارُ الإنجليزية أنفسهم على الهامش، يعانون الإقصاء المبرمج، وكأنهم يُعاقَبون على تفضيلهم الإنجليزية على الفرنسية خلال مشوارهم الدراسي!
هذا يعني أن بن غبريط تشتغل على المديين المتوسط والبعيد، وتعرف جيدا ماذا تفعل ولا تتحرّك في فراغ، وفي البداية قد لا نجد فروقاً كبيرة في كتب السنتين الأولى والثانية ابتدائي والأول متوسط عن الكتب الحالية، وهي الكتب التي ستشكل “الطلقة” الأولى لـ“الجيل الثاني للإصلاحات”، وهذا بهدف طمْأنة الرأي العام إلى أن “الإصلاحات” الجديدة تراعي هوية الجزائريين وتعزّزها، في حين أن الهدف الحقيقي سيكون التغطية على “الإصلاحات الحقيقية” التي تحضّر لها الوزيرة وأعوانُها وبمساعدة الخبراء الفرنسيين، لفرْنَسة المواد العلمية بالتدريج انطلاقاً من التعليمي الثانوي، بذريعة تحضير الطلبة للعلوم الدقيقة بالجامعة، وبعدها ستتذرّع الوزيرة بأن الطلبة الذين درسوا المواد العلمية في مرحلة المتوسط بالعربية قد وجدوا صعوبات جمّة في استيعابها بالفرنسية في التعليم الثانوي، ويجب حلّ هذه الإشكالية بفرْنسة المواد العلمية في التعليم المتوسط، ثم تتذرّع مجدداً بأن تلاميذ الابتدائي الذين درسوا الرياضيات بالعربية وجدوا صعوبة في فهمها بالفرنسية في المتوسط، ويجب تدريس الرياضيات بالفرنسية في الابتدائي. وبهذه الطريقة تزحف الفرنسية على المواد العلمية في أطوار التعليم الثلاثة تدريجيا، وخلال سنوات عديدة، إلى أن تصل الأقلية الفرنكفيلية بالبلد إلى هدفها وهو فرْنسة مختلف المواد العلمية في كل مراحل التعليم، والإبقاء فقط على مواد ثانوية تُدرّس بالعربية ومنها التربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية… أي تكريس الانقسام الحاصل في الجامعة بين التخصّصات العلمية المفرنسة والتخصصات الإنسانية المعرّبة، وتعميمها في شتى أطوار التعليم.
هذه العملية إذا تمّت، ولو بعد سنواتٍ عديدة من الآن، فستعني أن الفرنسية قد استعادت المدرسة الجزائرية بعد أن زحزحتها اللغة العربية منذ السبعينيات، وهو ما سيشكّل انتكاسة جديدة وكبرى لعملية تعميم استعمال اللغة العربية؛ فعوض أن تُدرّس مختلف التخصصات العلمية في الجامعة باللغة العربية كما ينصّ قانون تعميم استعمال اللغة العربية -الذي جُمّد عملياً دون الإعلان عن التجميد- فإن عملية معاكِسة هي التي ستحدث؛ وهي زحف الفرنسية على المواد العلمية التي كانت تُدرّس بالعربية في الأطوار التعليمية الثلاثة و“طرد” العربية منها، و“تعميم استعمال الفرنسية” بدلها!
وفضلاً عن الخسارة القاسية التي ستُمنى بها اللغة العربية في عقر دارها، وإحلال الفرنسية محلّها بعد 54 سنة كاملة على الاستقلال، فإن خسارة اللغة الانجليزية أيضاً لا تقلّ عنها؛ فالفرنكفيليون لا يرون “الإصلاح” خارج فرض الفرنسية على ملايين التلاميذ الجزائريين، وكل لغة تزاحمها وتهدّد مواقعها يجب أن تُبعَد بشتى الطرق وتُحاصَر ولو بأشكال غير قانونية كما يتبيّن من قرار بن غبريط الأخير بإقصاء الانجليزية من مسابقات الأساتذة.
منذ سنوات عديدة والفرنكفيليون يعملون دون هوادة على محاصرة العربية والإنجليزية ومنح “الاحتكار” للغة الفرنسية التي يهيمون بها حبا، ويبدو الآن أنهم بدأوا يقطعون خطواتٍ عملية ثابتة و“عملاقة” في هذا الاتجاه، وأنهم سيتمكنون تحت غطاء “إصلاح التعليم” من تهميش أكبر للعربية واللغة العلمية الأولى في العالم ومنح الاحتكار للفرنسية وحدها!
يحدث كل هذا في حين تلتزم مختلف فعاليات المجتمع صمتا مطبَقا، فنقابات التربية اكتفت ببيان محتشم أعربت فيه عن رفضها لهذه “الإصلاحات” التي لم تُستشر فيها، والأحزاب السياسية الوطنية والإسلامية ومختلف الجمعيات والمنظمات، حتى الثورية منها، ركنت إلى الصمت واللامبالاة، ولم ترقَ حتى إلى الانتفاضة التي قادها الدكتور علي بن محمد قبل نحو 11 سنة لرفض تطبيق تقرير بن زاغو.. الآن خلا الجوّ للأقلية الفرنكوفيلية التغريبية لتبيض وتصفر ما دام الجميع قد استسلم للأمر الواقع فيما يبدو.