مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
كلمة الرئيس

واجب الوفاء للعلماء، الأموات والأحياء بقلم أ.د عبدالرزاق قسوم

قسوم أ.د عبدالرزاق قسوم

  ما أجمل الوفاء من الأُصَلاء، حينما يكون للعلماء والشّهداء. أقول هذا، وقد عشت هذا الأسبوع الثالث من شهر فيفري 2016م، تظاهُرتين للوفاء، إحداهما في شرق الجزائر، وثانيهما في عاصمتها.

  أمّا الوفاء الأوّل، فقد نظّمته بلدية اغبالة بولاية جيجل، مسقط رأس العالِم الجليل والمؤرِخ الأصيل، الشيخ مبارك بن محمد براهيمي الميلي.

  نُظِمت هذه التأبينية من طرف بلدية اغبالة برئاسة دكتورها الشاب أحمد براهيمي، حفيد الشيخ مبارك الميلي، وذلك بمناسبة الذكرى الواحدة والسبعين (71) لوفاة العالِم الطيّب الذِكر والمؤرِخ الأصيل الفِكر، الشيخ مبارك الميلي (1945-2016).

  تميّز هذا الحفل التأبيني بحضور كمي ونوعي متميّز، غصّت قاعة المركز الثقافي لبلدية اغبالة بالحاضرين المدنيين والعسكريين.

  وأضفى على الحفل التأبيني تعاقب الخطباء من مختلف الاختصاصات، من أمثال رئيس المجلس الشعبي البلدي، وأساتذة، وأئمة، ودكاترة، من أمثال د.يوسف عابد المؤرخ، وعلي بن طاهر الإعلامي، والدكتور ماهر شلال من سوريا، والأستاذ عمار الواعر أستاذ بمعهد تكوين الأئمة بتلاغمة، والأستاذة أمينة مطعم، ماجستير في آثار الشيخ مبارك الميلي، والأستاذ مصطفى بن عبد الرّحمن المراقب العام لجمعية العلماء المسلمين، بالشرق الجزائري، إلى جانب الشاعر المتألّق صالح سويعد عميد شعراء جيجل، والأستاذ بوجويجة مدير الشؤون الدينية لولاية جيجل… وغيرهم.

  وفي الكلمة التي ألقاها رئيس جمعية العلماء كانت هذه السّطور، ربط بين العالِم العامِل بعلمه، وجمعية العلماء الحاضنة لفكره، والملهِمة لمنهجه. فقد كانت جمعية العلماء هي الغيث الدافع الذي ساقه الله إلى الجزائر، عندما كان يعاني القحط الثقافي والجذب السياسي.

  ومن هذا الغيث النّافع، انبثق مبارك الميلي، العالِم الصالِح المصلِح، الذي تخصّص في التصحيح الدّقيق والعميق، تصحيح العقيدة الدينية من الشعوذة والدجل، والتضليل باسم الدّين، وموالاة المستعمِر، وذلك بواسطة كتابه القيّم “الشّرك ومظاهره”.

  أمّا التصحيح الثاني، فهو التصحيح الوطني، بتأصيل معنى المواطنة، وإعادة تحقيق الحقائق التاريخية، وإبطال الأحكام الاستعمارية، وتمّ هذا بفضل كتاب الشيخ مبارك الميلي “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” الذي وصفه الإمام عبد الحميد ابن باديس بحياة الجزائر.

  أمّا الوفاء الثاني للعلماء، فقد تجلّى في الوقفة التأبينية التي نظمّتها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، بالتعاون مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومخبر مشكلات الحضارة والتاريخ بجامعة الجزائر2، وخُصّصت هذه الوقفة التأبينية، للعالِم الجليل الشيخ محمّد الأكحل شرفاء، بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته.

  وقد تميّزت هذه التأبينية أيضًا بالمحاضرات والشهادات في حقّ الفقيد. وممّا جاء في كلمة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في حقّ الشيخ الفقيد بعنوان “الغصن الأثيل، في النّبت الأصيل” ما يلي:

هذا غصن الصّلاح والنّماء في دوحة الإصلاح الغنّاء، إنّه محمّد الأكحل شرفاء، الذي نبت على الأصالة والصفاء في دوحة العلماء الخصيبة العطاء.

  فتح عينيه في البيت العائلي، الدافئ بدفء القرآن، فتنغّمت أذناه بحلاوة التّلاوة، من أمّ صالحة نشّأته على التّعبّد بذكر الله، وعلى كلّ ما هو نقاوة، كما تفتّق لسانه بآيِ الله، فأكسبه فصاحة البيان، وانفتح عقله على معاني التديّن الصحيح، فانعكس ذلك دماثة في الخلق، وحكمة في الجنان.

  كانت المقدّمة السليمة –إذن- لنشأة فقيدنا محمّد الأكحل شرفاء، هي هذه الأسرة الصّالحة، من أمّ تخصّصت في تعليمه القرآن، ومن جوّ عائلي ضمَن له النّشأة السّليمة البِنيَة والبنيان.

  ثم أتمّ البناء، الدّوحة الإصلاحية الغنّاء، جمعية العلماء، التي غذّته بلبن العلم والإصلاح ومهّدت له سبل الصّلاح، ومكنته من النّجاح في ميداني العلم والفلاح.

  من هذين الينبوعين الصافيين، ينبوع النّبت العذب السّديد، وينبوع ابن باديس المصلح الرّشيد، تهيّأ لمحمّد الأكحل شرفاء الاستعداد لنيل العلم الذي كان القرآن العظيم أساسه، والخلق القويم من ابن باديس وأناسه فشبّ صالحًا مصلحًا، يغدو ويروح بين البيت والمدرسة متعلمًا، ومُعلمًا، وبين المسجد والنّادي، هاديًا وباتيًا، وبين المذياع والصحيفة موجهًا ومنبّهًا.

  هكذا تشابكت عوامل الذّيوع والنّبوغ في شخصية فقيدنا، فجعلت منه الأستاذ النّاجح، والوّاعظ النّاصح، والبلبل الصّادح، يعيش مع الله في سبحاته، ويحلّق في الجوّ النّبوي بنفحاته، يتأمّل أحاديثه وآياته.

  وماذا عسانا نقول في عالمٍ، تنوّعت جوانب العظمة في شخصيته، وتعاونت مقوّمات النّبوغ في تفتّق عبقريته.

  ففي كلّ منحى من مناحي العمل الإسلامي، ملتقى بأعمال محمد الأكحل شرفاء، بدأ بملتقيات الفكري الإسلامي، إلى جمعية القيم، إلى نادي الترقّي، إلى مختلف المساجد، وانتهاء بجمعية العلماء، التي هي صيغة منتهى الدّعوة والعظمة في تبليغ خطاب الله، والاقتداء الصحيح بسنة رسول الله.

  هذا هو –إذن- فقيدنا الذي نرثيه اليوم فنبكيه، نبكي فيه المعلِّم الذي اختفى منهجه، والوّاعظ الذي غاب نهجه، والكاتب الدّعوِي الذي انطفأ إشعاعه ووهجه.

  لقد قدّم الأستاذ محمّد الأكحل شرفاء، لدينه، ولوطنه، وأمّته ما يجب على كلّ عالمٍ عاملٍ بعلمِه أن يقدّمه، وبقي علينا نحن الخلَف أن نلقّن للسلف كناشئة بأن يهتدو به في تفانيه لخدمة الإسلام، والعربية حتى يحفظهما من الظلم، وسوءِ الفهم.

  وبقي علينا كمؤسسات أن نخلِّد اسمه بإطلاق اسمه على الدفعات الطلابيّة، والمؤسسات التعليمية، والنّوادي الثقافية، والمساجد الدّينية، وإن ذلك هو أضعف الإيمان.

  إنّ أقّل معاني الوفاء، يقتضينا أن نجمع كتاباته، ونحفظ أحاديثه ومحاضراته، في كتب تكون هي مؤلفاته. كما يجب علينا أن نعمّم سنّة الوفاء هذه لكلّ العلماء، حتى تخلّد في العقول معنى الاقتداء للأموات منهم والأحياء.

  رحِم الله شيخنا الجليل، وجعله في ظلّ ظليل، مع الذين أحبّهم، واقتدى بهم من كلّ صالح أو مُصلح أصيل نبيل.

  ورحم الله كلّ علمائنا وشهدائنا، الذين بفضلهم مثل هذه المناسبات، ونتقلّد مثل هذه المسؤوليات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى