تحاليل وآراءقضايا الأمـــة
حينما ينتقدنا الأجانب على الحديث معهم بغير العربية! بقلم أ.حسين لقرع

أبدى السفيرُ البريطاني بالجزائر أندرو نوبل منذ أيام حسرته على حديث رئيس غرفة التجارة لولاية المدية وعددٍ من مستثمريها معه باللغة الفرنسية، عوض أن يتحدثوا معه بلغتهم العربية التي يتقنها وكان مستعدا للتواصل معهم بها أو بلغته الإنجليزية، ولم يتردّد في انتقادهم على ذلك، ولكنه اضطرّ إلى التعامل معهم بالفرنسية حينما رأى مدى إصرارهم على استعمالها وتجاهل لغتهم الوطنية والرسمية.
كنا نتمنى لو شعر مستثمرُو ولاية المدية ورئيسُ غرفتها التجارية بالخجل وهم يسمعون انتقاد السفير البريطاني ويستدركون الأمر ويتحدثون معهم باللغة العربية ما دام يتقنها، ولكن القوم أصروا على غيّهم وأجبروه على التواصل معهم باللغة الفرنسية!
هي حادثةٌ مؤسفة تؤكد مرة أخرى مدى احتقار الكثير من المسؤولين الجزائريين للغتهم الوطنية والرسمية وتفضيل ضرّتها الفرنسية عليها في عُقر دارها، ما يعني أن الدستور، ومادته الثالثة تحديداً، ليست سوى حبر على ورق بالنسبة إلى هؤلاء المسؤولين الذين أبتلي بهم الشعب؛ فاللغة الوطنية والرسمية الحقيقية هي الفرنسية، وإن لم يتمّ إدراجُها في الدستور، وإن كنا لا نستبعد أن يتمّ ذلك مستقبلاً تحت غطاء “احترام التعددية اللغوية في الجزائر” مثلما يتشدّق الفرنكوفيليون منذ التسعينيات.
والواقع أنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤولونا، في مختلف مواقع المسؤولية، بالفرنسية مع مختلف الوفود الدولية، أو خلال زيارة شتى بلدان العالم التي يتحدث أهلُها بلغاتٍ عديدة ولا مكان للفرنسية في الكثير منها، إذ يتحدث مسؤولونا بالفرنسية وكأنها هي لغتنا الرسمية، أو كأنّ الجزائر لا تزال تابعة للاستعمار الفرنسي ولم تستقلّ بعد، ما يؤكد أن دفعة “لاكوست” التي تركتها فرنسا لحكم الجزائر بعد الاستقلال والإبقاء على تبعية الجزائر لفرنسا ثقافياً، لا تزال متغلغلة في دواليب الحكم، ولم تضعف بعد أو تتراجع، برغم أن الأغلبية الشعبية أضحت تميل إلى استعمال اللغة العربية وتنبذ الفرنسية، خلافاً للعقود الأولى التي تلت الاستقلال.
ودفعت هذه الظاهرة العجيبة الكثيرَ من الوفود الأجنبية التي تزور الجزائر إلى جلب مترجمين من لغاتها إلى الفرنسية، عوض جلب مترجمين إلى العربية، لإدراكهم أن المسؤولين الجزائريين في مختلف المواقع يفضّلون استعمال اللغة الفرنسية ويتجاهلون العربية لاستحكام عقدة النقص لديهم؛ فالفرنسية في نظرهم هي لغة “تحضّر” و“رقيّ”، والعربية لغة “تخلّف”!
والغريب أن بعض مسؤولينا “يفتخرون” بأنهم لا يتقنون العربية، وهي ظاهرة عجيبة أخرى لا تحدث إلا في الجزائر، فكلّ مسؤول أجنبي لا يتقن لغته جيدا يشعر بالحرج والخجل، ويعتذر عن ذلك بصدق، إلا في الجزائر، فذلك مصدر “اعتزاز” و“افتخار” لدى مسؤولينا الذين أبتلينا بهم!
إزاء هذا الوضع المزري لواقع اللغة العربية التي تُهمّش في عقر دارها لفائدة ضرتها الفرنسية منذ أزيد من نصف قرن من الاستقلال، يجدر التساؤل عما تعنيه المادة الثالثة من الدستور إذا كان المسؤولون الذين يُفتَرض أن يحرصوا على تطبيقها، أوّلَ من يدوسونها بأقدامهم ويشجّعون الجزائريين على ذلك باعتبار أن الناس على دين ملوكهم؟ وكيف تتشدق السلطة في هذه الحالة بأن “العربية هي لغة الدولة”؟
الواقع يقول إن العربية الآن أضحت لغة الشعب فقط؛ ملايين الجزائريين يتشبّثون بلغتهم ويشعرون، وهم يتابعون تصريحات مسؤوليهم في التلفزيون الرسمي باللغة الفرنسية، أن هوة سحيقة تفصل بين الطرفين، وأنهم في واد ومسؤوليهم في واد آخر.
لقد أخطأت رئيسةُ حزب العمال لويزة حنّون بانتقاد المادة 3 و3 مكرر من الدستور الجديد، حينما نصّت على أن العربية هي “لغة الدولة؟!”، وتساءلت بعدها حنون: الأمازيغية لغة من إذن؟ والجواب أن العربية ليست لغة دولة في الواقع، بل هي كذلك في النصوص القانونية فقط، أما الواقع فيقول إن العربية والأمازيغية هما لغتَا الشعب وحده، في حين أن الدولة لها لغة أخرى يستعملها مسؤولوها -إلا من رحم ربي- باستمرار في حديثهم مع الأجانب، وبسبق إصرار وترصّد، ولا أمل في تغيير هذا الوضع القاتم إلا بتغييرٍ عميق في الحكم، يتبعه تطبيقُ قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صادق عليه البرلمان في ديسمبر 1991، وجُمّد ظلماً في بداية جويلية 1992، ورفع عنه الرئيس الأسبق زروال، بنصيحةٍ من الجنرال بتشين، التجميدَ في أواخر 1997، لكنه اضطرّ إلى تجميده مجدداً، وبشكل غير رسمي، في أواخر جوان 1998 حفاظاً على وحدة البلد وأمنه بعد اشتعال الوضع فور اغتيال معطوب الوناس في 25 جوان 1998، وبعدها لم يعد لهذا القانون أي وجود في عهد بوتفليقة، وعرف التعريب طيلة 16 سنة نكساتٍ كثيرة، وأصبح الكثيرُ من مسؤولينا الآن لا يشعرون بأي خجل أو حياء وهم يخاطبون الأجانب بغير لغتنا الوطنية والرسمية!