تحاليل وآراءقضايا الأمـــة
احتفال الجزائر بتصدير آخر برميل نفط.. هل هو أمرٌ ممكن؟ أ. حسين لقرع
منذ أيّامٍ قليلة، قال حاكم دبي ورئيس الوزراء الإماراتي، إن بلاده ستحتفل قريباً بتصدير آخر برميل نفط، وستركّز بعدها جهودها على قطاعات أخرى مُنتِجة للثروة ومناصب العمل، وهي قطاعات شُرع في تطويرها منذ سنوات استعداداً لمرحلة ما بعد النفط؛ أي للمرحلة التي لا يكون فيها تصديرُ هذه المادة الزائلة مجدياً لانهيار أسعارها، أو حينما تنفد تماماً، واستطاعت الإمارات بعد سنوات أن تخفّض الاعتماد على البترول من سنة إلى أخرى، حتى لم يعد يساهم في الخزينة العمومية سوى بـ30 بالمائة فقط، ما يمكّنها من امتصاص أي صدمة ناجمة عن انهيار أسعاره.
في الجزائر، يحدث العكس منذ خمسة عقود، فبرغم الحديث المتكرّر عن ضرورة تخليص الاقتصاد الوطني من طابعه الريعي، ومن تبعيته الخطيرة للمحروقات، وتنويع موارده ومداخيله بالعملات الأجنبية، استعداداً لأسوإ الاحتمالات، إلا أن هذه المادة الآيلة إلى الزوال بقيت تشكل97 بالمائة من مداخيل البلد بالعملات الصعبة، وتشدّقت كل الحكومات المتعاقبة بأنها ستضع برامجَ اقتصادية طموحة لرفع الصادرات خارج المحروقات، من عام إلى آخر، لكن تلك الوعود بقيت لغة خشبٍ ممجوجة؛ إذ لم تتحسّن الوضعية على الإطلاق، وأصبحت تبعية الاقتصاد الجزائري للنفط كالقدرية المحتومة التي لا فكاك منها.
ما فعلته الإمارات تحديداً هو أنها وظّفت عائداتها الضخمة المتأتية من تصدير النفط، لتطوير قطاعاتٍ أخرى مُنتجة بغية تنويع اقتصادها والتحرّر من تبعيتها للنفط باعتبار أن أسعارَه خاضعة لتقلبات الأسواق الدولية والمناورات السياسية لعددٍ من الدول المُنتِجة، ولا يمكن لأي دولة تحديد الأسعار التي تريد لنفطها، أي أنها استغلّت النفط للتخلص من تبعيتها للنفط، وكان ذلك تصرّفا حكيما ينمّ عن حُسن قراءة عواقب الأمور، وجدّية في التفكير في بدائل اقتصادية حقيقية ودائمة لثروة النفط الزائلة.
أما الجزائر فقد بدّدت عائداتها النفطية الضخمة ذات اليمين وذات الشمال، ولم تسعَ جديا إلى تطوير أي قطاع مُنتج خارج المحروقات، بل إنها كانت بصدد تطوير الغاز الصخري منذ أشهر لولا الاحتجاجات الشعبية العارمة ضده في عين صالح وكذا تكلفته العالية التي تفوق بكثير الأسعار الحالية للنفط، كما ضيّعت الجزائر فرصة العمر حينما كسبت نحو ألف مليار دولار في ظرف 16 عاماً الأخيرة بفعل ارتفاع أسعار النفط إلى غاية 134 دولار للبرميل.
صحيحٌ أن هذه الثروة الضخمة قد استغلت في دفع الديون الخارجية للبلد والتي كانت سيفا خطيرا تسلطه الهيئات المالية الدولية على رقابنا، وترهن استقلالية قرارنا، كما بنت جامعاتٍ ومؤسسات تربوية ومستشفيات وطرقاً ومطاراتٍ وسكنات وأكملت شطرا من الميترو والترامواي، ومشاريع أخرى دعمت بها البنية التحتية للبلد وحسّنت بها الظروف المعيشية لملايين الجزائريين ولاسيما في الأرياف…ولكن كل هذه المشاريع لم تكن في مستوى المبالغ المُنفَقة، وكان يمكن انجازُ الكثير، ومنها تطوير فلاحةٍ عصرية تمكّن البلد من أن يتحوّل إلى سلّة غذاءٍ حقيقية لإفريقيا كلها، وتطوير سياحة تجلب ملايين السياح الأجانب، وقطاعات أخرى منتجة للثروة ومناصب الشغل معاً…
إن تضييع هذه المداخيل الهائلة واللجوء الآن إلى جيوب المواطنين لتعويض الجباية النفطية، عن طريق رفع الأسعار، وبداية الحديث عن العودة إلى الاستدانة الخارجية، يدلّ على حجم الورطة التي أوقعت فيها السلطات البلد، كما يكشف بشكل لا لبس فيها سوء تسييرها لمقدرات البلد المالية، وكذا عن حجم الفساد الذي نخر الاقتصاد الوطني، فهناك دولٌ تقلّ إمكاناتها المالية عن الجزائر بكثير، ولكنها أنجزت الكثير لشعوبها بسبب ضآلة الفساد فيها، فضلا عن حُسن تسيير حكوماتها.
لو كان هناك حسنُ تسيير حقيقي ونسبة فساد بمعدلات متدنية، لكانت الجزائر الآن يابان إفريقيا، ولكانت تنافس على الأقل الدولَ الصاعدة حديثاً كالبرازيل والأرجنتين وتركيا وإيران التي قهرت الحصار والعقوبات الدولية بإنتاج داخلي متميز، ودول عديدة أحسنت منذ البداية استغلال قدراتها وتوظيفها في بناء اقتصاد قوي ومتنوع يعتمد على قطاعات أخرى غير النفط.
كنا نودّ أن تكون الجزائر الآن بحجم الإمارات على الأقل، وأن تستعدّ بدورها لـ”الاحتفال” بآخر برميل تصدّره من النفط، لاسيما وأن أسعاره الحالية لا تبتعد كثيراً عن أسعار التكلفة التي ستجعل تصديره غير مجدٍ اقتصادياً إذا نزل إلى عتبة أقل من 20 دولاراً، ولكن لاشيء يؤكد قرب تحقيق هذا الحلم، ما دامت البلاد قد ضيّعت 54 سنة كاملة دون أن تطوّر أي قطاع آخر خارج النفط، وبخاصة الفلاحة والسياحة.
ومع أن البلد بدأ يتّجه الآن –مضطرا- إلى تنويع استثماراته في قطاعات عديدة للتخلص من ربقة التبعية للنفط، إلا أن ثمار هذا التوجّه لن يراها المواطن قبل سنوات قد تكون طويلة، ونأمل أن يتمكّن من ذلك يوماً، وأن لا يتراجع عن هذا المخطط الطموح كما تراجع عنه من قبل، بفعل التسيّب وسوء التسيير معاً، بعد أن ارتفعت أسعار النفط مجدداً.
كان يمكن أن تحدث الانطلاقة بعد صدمة 1986 النفطية، لكن السلطات ضيّعت تلك الفرصة، وضيّعت مجدداً فرصة اكتساب ألف مليار دولار في السنوات الأخيرة، ولُدغت من الجحر نفسه عدة مرات للأسف الشديد، لتوصل البلاد إلى وضع بالغ الخطورة!