غير مصنف
الوعي الإيماني قوام الاستجابة الحضارية بقلم الشيخ محمد مكركب
من العوامل الحضارية الفاعلة في تطور سلوك الإنسان ورقيه، قيمة فكرية إيمانية تسمى (الوعي الإيماني) وهو قوام الاستجابة الحضارية. والملاحظ على سلوك الغالبية من المنتمين بالاسم للشعوب الإسلامية، أنهم يفتقدون هذه القيمة، قيمة (الوعي الإيماني) وذلك ما جعلهم يوصفون بالمتخلفين.
والغرض من طرح هذا الموضوع هو العمل على نشر الوعي بين المسلمين، وفق ما يتناسب مع شعب الإيمان، لنكون نحن معشر المسلمين نمثل الإسلام، في أعلى صوره الحضارية. من أجل أن يكون الموظف واعيا، والطالب، والأستاذ، وغيرهم، ومن أجل أن تكون الزوجة في الوسط الأسري واعية. وعندما يمتاز أفراد المجتمع بالوعي ويتخلصون من العجز والوهن والكسل، يحدث التطور والرقي ويتحقق الأمل. وتعلم الوعي الإيماني سهل، ولكنه من ألغاز، وأسرار الحكمة.
فما هو الوعي المطلوب؟ الوعي عموما هو قوة الفهم والحفظ والإدراك، أو هو العملية الذكائية، التي تعني الفطنة والنباهة والفهم. يقال وعى القرآن، أي عقله إيمانا به، وتدبره ففهم معانيه، وأحصى ألفاظه وأحكامه فعمل به، ويقال وعى المسألة، أي فقهها، وأدرك أسبابها وعللها، وبذلك يتوصل إلى حلها، والواعي هو الحكيم، وقديما قيل: أرسل حكيما، ولا توصه، وهو اللبيب، ومن ذلك قولهم: اللبيب بالإشارة يفهم، والغبي بغير العصى لا يقوم. ومن ثمرات الوعي سرعة الاستجابة بحكمة، ومن ثمرات الوعي الإيماني التنفيذ بإحكام وإتقان بلا زيادة ولا نقصان، وما أحوج المنتمين للإسلام لهذا الخلق، ليكون سلوكهم حضاريا، يمثل أرقى صور الإنسانية.
قال محاوري: هل من مثال، والعرب يقولون بالمثال يتضح المقال، ويفهم ما يُقال؟ إليك مثال من التاريخ، ومن زبدة التاريخ السيرة النبوية. روى مسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلا هداه الله تعالى ورزقه قيمة الوعي الإيماني، جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: [تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان] قال الرجل: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئا، ولا أَنْقُصُ منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا] ما هو وجه الاستدلال بهذا الحديث لتبيان قيمة الوعي؟ أين تظهر قيمة الوعي من خلال موقف هذا الرجل؟ أول فائدة لنا نحن الذي نقرأ هذا المقال الآن، فإننا نتعلم كيف نتدبر النصوص؟ وكيف نكتسب قيم الوعي والذكاء والكياسة من الوحي؟ لأن خير مدرسة هي مدرسة الوحي، وخير أمثلة نصية هي الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
1 ـ أن هذا الرجل عرف الهدف، وجاء إلى المنبع والمورد الرسمي للوسيلة التي تصله إلى هدفه، وهذا أبلغ أمر يبدأ به أهل الوعي، أنهم يتيقنون بعد الدراسة والاستشارة، من أن الغاية التي يريدونها وتنفعهم في الدنيا والآخرة، هي في الهدف (كذا). ثم يبحثون عن الوسيلة العلمية الشرعية، ولا يخاطرون، ولا يغامرون. فهذا الرجل علم أن غايته الجنة، وعزم على أن لا يحيد عن طريقها، ثم علم أن أعظم مرشد له هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فراح مباشرة إلى منبع العلم الحقيقي، وبقيمة الوعي الإيماني التي وهبها الله إياها، علم أن الدقة في التنفيذ هو سر النجاح. نعم هل علمتم أن الدقة في التنفيذ هو سر النجاح؟.
2 ـ هذا الرجل لَمَّا علم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما الذي يدخله الجنة، عزم جازما، وعبر عن عزمه بالقسم، بأنه سيعمل بالذي دل عليه حرفيا، لا يزيد فيه ولا يَنْقُصُ منه شيئا.
3 ـ تمثلت قيمة الوعي الإيماني عند هذا الرجل، في الالتزام والسرعة والحرفية في التنفيذ، وهكذا كان الصحابة، رضي الله عنهم، يسارعون في تنفيذ ما حفظوه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدون تسويف، ولا تأجيل، ولا تعطيل، وبهذا نجحوا، وفلحوا، فانتصروا وفتحوا. وبهذه العزيمة نجح أهل الدنيا في دنياهم، وبالقيمة نفسها نجح أهل التكنولوجيا والإدارة في التسيير.
4 ـ وقول هذا الرجل: (لا أزيد على هذا شيئا، ولا أَنْقُصُ منه) فيه سر هذه القيمة، فما أحوجنا إلى أفراد وَقَّافِينَ عند أحكام الشريعة، وقيم الأخلاق، وقواعد القانون، لا يجاوزون ذلك بحرف ولا نقطة. لو أن كل فرد من أبناء الأمة الإسلامية يطبق القواعد العلمية، والبرامج والمخططات بكامل الحكمة، لا يزيد ولا ينقص لكانت الإنسانية بخير.
كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعلم الصحابة سرعة الاستجابة، وسرعة التنفيذ، وحفظ مواصفات وشروط العمل، بلا زيادة ولا نقصان. روى البخاري من حديث سعيد بن المعلى، رضي الله عنه، قال كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، فلما سلمت، قلت يا رسول الله: إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؟!.
ومن الوعي الإيماني تطبيق القانون حرفيا بلا محاباة أحد، وبلا خوف من أحد، مهما كلف ذلك من المضايقات والمعاناة، ومن ذلك موقف أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، جاءت فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، بعد وفاة أبيها، صلى الله عليه وسلم، إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، تطلب ميراثها مما تركه أبوها، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: [لا نورث، ما تركناه صدقة] فغضبت فاطمة، وهجرت أبا بكر، وكانت تسأله نصيبها، مما ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خَيْبَرَ وفَدَكٍ، فكان جواب أبي بكر في هذه المسألة وغيرها: “لست تاركا شيئا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعمل به، إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ” صدقت يا أبا بكر، فإن من ترك حرفا من الشرع فقد فتح باب الانحراف لنفسه. تصوروا لو ينتشر وعي أبي بكر الصديق بين الناس، ويصبح كل فرد يعمل بأحكام الشرع، لا يترك شيئا؟. إذن لقامت الحضارة بمدنيتها الزاهرة، وذاق البشر طعم الأمن والاستقرار.
ومن الوعي الإيماني وعي الحضور، هل علمتم ما معنى وعي الحضور؟ يفهم من منطوقه اللفظي، وهو أن يكون المسلم حاضرا مستعدا في كل المواقف التي تقتضي حضوره، فإذا كان معنيا بعمل، وجب أن يكون حاضرا من بداية الوقت إلى نهايته، وإذا كان معنيا باجتماع، أو ندوة، أو وليمة، أو مجلس، فقيمة وعي الحضور تقتضي منه أن يكون موجودا بين الحاضرين، واللطيفة في مدلول هذه القيمة، نقول بأن السلوك الحضاري يبدأ من هنا، مع قيمة الوعي الإيماني، فلا حضارة بغير الوعي الإيماني، ووعي الحضور.
فالغياب عن العمل، أو الاجتماع، أو عن الندوات، وعن حلقات العلم، كل ذلك من علامات الغباء والجهل والأمية الفكرية اللاحضارية. لذلك تقرأون في قصة سليمان، عليه السلام، كيف هَدَّدَ وَشَدَّدَ في عقوبة الهدهد لو أنه كان غائبا بغير سبب شرعي مقبول..﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}.
فكم من مسلم يغيب عن المجالس، والأعمال، ولا يحضر في المكان الذي يجب أن يكون حاضرا فيه، ولا يؤنبه ضميره، لأنه فاقد لقيمة الوعي، وفاقد لقيمة الشعور بالمسئولية. والعيب الكبير أن ذلك الغائب المتهاون المتخلف، لا يجد من يقف له كما وقف سليمان، عليه السلام، للهدهد..فما نجح المتقدمون إلا بهاتين القيمتين الخلقيتين: الوعي الإيماني، ووعي الحضور.أيها المسلم تَحَلَّ بقيمة وعي الحضور، وقل ها أنا في الخير دائما، فلا مبرر للغياب، فالغائبُ عنْ مكانِ الحضورِ عَدُوُّ نفْسِهِ، وخَائِنُ أُمَّتِه. وها هو رجل من رجال الإصلاح حقا وصدق، يتحرك بقيمة الوعي الإيمان، فلما كان رئيسَ القوم ألزمهم بهذه الأخلاق الحضارية، وهكذا الرؤساء المسلمون حقا، يعلمون رعيتهم أحكام وأخلاق الإسلام ويلزمونهم بذلك. قال الله تعالى:﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ لماذا وُفِّقَ في اتباع الأسباب التي آتاه الله تعالى، ونجح في كل مشاريع الخير؟ وكثير من الحكام آتاهم الله الأسباب فلم يتبعوها، وركنوا إلى الاستبداد؟ لأن هذا الرجل الصالح يتحرك بالوعي الإيماني﴿قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾.
وخذوا العبرة من قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لماذا شدد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في العقوبة التي عاقبهم بها؟ لأنهم غابوا عن الحضور، وكل من يغيب عن الحضور، ولو عن اجتماع، أو ندوة، أو مجلس شورى، أما من يغيب عن العمل، والمهام الرسمية، فإنه الفصل والتأديب، حتى يكون عبرة لكل من يغيب.
وإذا كانت الموعظة لنا جميعا كأفراد في المجتمع، بأن نتحلى بقيمة الوعي الإيماني، ووعي الحضور، لنكون في مستوى قيمة ديننا، ومكانة أمتنا،..فإن الموعظة كذلك، بل وبالدرجة الأولى، للمسئولين الذين يجب عليهم ثلاثة أمور، في هذه المسألة:
1 ـ أن يكونوا قدوة لغيرهم، وهذا فرض واجب عليهم، إن لم يقوموا به، كان عيبا فيهم.
2 ـ أن يُفَقِّهُوا الناس في هاتين القيمتين، وأن يلزموهم بالتطبيق.
3 ـ معاقبة من يتخلف عن الحضور، أو من يتهاون أو يتأخر عن الاستجابة.