مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

بين الشورى العلمية ورغبات الأغلبية بقلم الشيخ محمد مكركب

محمد مكركب الشيخ محمد مكركب

  كثيرا ما تتعارض الآراء، وتتصادم الأفكار بين أعضاء مجالس الشورى، بشأن مشروع قانون من القوانين، أو بشأن قضية من قضايا الأمة، والتنوع في الاجتهاد تابع لتنوع مستويات العلم، والفهم، والخبرة، وهو ما يؤدي إلى تنوع الآراء والأفكار، ويختلف المجتهدون في رؤيتهم بين مؤيد ومعارض، وهذه ظاهرة فطرية في الناس، في كل العالم البشري، منذ بداية الأسر والمجتمعات على هذه الأرض.

  إلا أن الاختلاف المذموم في مجالس الشورى، ومناقشة القضايا المصيرية للأمة، هو عندما يؤيد المؤيد، ويوافق على المشروع، أو يعارض المعارض ويرفض المشروع بغير دليل علمي، ولا برهان قانوني شرعي. نعم إنما يُلام عليه النوابُ في المجالس الشورية في العالم العربي، ومنهم النواب في الجزائر، عندما يؤيدون أو يرفضون بالعصبية الحزبية، وبالحساسيات السياسية، وإذا كان هذا المرض النفسي وفد إلينا من عند غير المسلمين، فإنه لا يليق بالمثقف المسلم عامة، والمستشار في مجلس الشورى خاصة أن يقع في ألاعيب السياسة الأهوائية، سياسة شيخ القبيلة والدوار، وقد علم المسلم أن من المهلكات: الهوى المتبع، وإعجاب المرء برئيه، ورفض الرأي الآخر مهما كان.

  الشورى قيمة فكرية سياسية إسلامية، قوامها العلم الشرعي، أي فقه آيات وأحاديث الأحكام الشرعية، وفقه الواقع، والمقاصد. مع شيء من الاطلاع على علم النفس، والاجتماع، والسياسة، وعلم القانون.كل ذلك من أجل أن يتمكن المستشار من فهم تفسير القوانين، وفك ألغاز القضايا الاجتماعية، والسياسية.

  قال محاوري: معنى هذا أن عضو المجلس الوطني الشوري يجب أن يتزود بهذه العلوم، ليكون أهلا للقيام بمهامه؟ لكن الواقع عند الكثير هو غير هذا.

   أجل، إن كل من يتولى مهام تمثيل الشعب، يجب أن يكون عالما بثوابت المجتمع، وقضايا المجتمع، وأن يكون على علم كاف ليقود الأمة قيادة علمية، ولذلك لا يكون التشريع بالرأي الانطباعي، أو رأي العامة، أو بالرغبات الجهوية، والتحيزات المذهبية. كما أن قبول القوانين أو رفضها لا يكون برفع أيدي، إنما بالحجة العلمية. فرفع اليد ليس مؤشرا على منطق الدليل العلمي، إنما بالكتابة قبولا أو رفضا، مع التعليل بالبرهان والدليل، والتوقيع، والتسجيل الرسمي..وعندما ينشر القانون في الجريدة الرسمية يسجل عليه أسماء المقننين الذين كتبوا هذا القانون أو هذا الدستور. لتعرف الأمة من يشرع لها، ومن يتحمل المسؤولية أمامها..وعلى رجال السلطة السياسية أن يعلموا متى يستشيرون، وتكون الشورى ملزمة، ومتى يستشيرون، وتكون الشورى اختيارية معلمة، ومتى لا يستشيرون. وهذه المسائل الفقهية في علم القوانين تقتضي الزاد العلمي الذي أشرنا إليه، لذلك أستعمل مصطلح (الشورى العلمية) للتمييز بينها وبين الرأي الأهوائي، الذي يُحَاوِرُ به غير العالمين. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، يطالب كبار الصحابة بالإدلاء برأيهم علنا، ومباشرة، وبكل وضوح، ليكون الرأي العام على بينة من الأمر.يقول: [أشيروا علي أيها الناس، أشيروا علي أيها الناس] حتى يتكلم النقباء، ويقولوا كلمتهم، أمام إخوانهم.

  قال محاوري: ولكن النائب عندنا في مجالسنا، يكفيه أنه يعلم مشاكل وقضايا الدائرة التي انتخبته، ليدافع عنها، وليطالب بالإصلاح الذي يخدم جهته. قلت: هذا من الغلط الذي يُكَرَّسُ في أنظمة بعض الدول العربية، إن عضو المجلس الشوري الوطني، يمثل الوطن كله، فالقانونُ الذي يشارك في تشريعه، والرأيُ السياسيُّ والاقتصاديُ والتربويُ، وقبولُ أو رفضُ قانُونٍ، ليس خاصا بمنطقته، ولا بدائرته وحدها، فالقانون لكل الوطن، وحتى وإن كان الإصلاح يخص جهة فالمقصود منه المصلحة العامة للوطن. وهل العضو المنتخب من ولاية ما، أنه لا يعلم مشاكل وقضايا الولايات الأخرى، أم أنه لا يدافع إلا عن ولايته؟! فهذا ظن خاطئ،. فالمفروض أن عضو المجلس الوطني يمثل كل الوطن، والمفروض أنه يعلم مشاكل وقضايا كل شبر من وطنه. ومن هنا وجب أن يُنتخب على مستوى الوطن كله، بناء على مؤهلاته، وكفاءته، وخبرته، لا على انتمائه لحزبه، أو طائفته، أو مذهبه، وعلى أفراد الشعب أن يختاروا الشخص لعلمه، وكفاءته، وأمانته، وإخلاصه، ولا يختارون الشخص لحزبه، وطائفته، ومذهبه، أو لعصبية جهوية، أو عشائرية.

  قال محاوري: لقد سبق أن قرأنا لكم مقالا عن مسئولية النائب في المجلس الشوري الوطني، وبما أننا أمام بحث خاص بالشورى العلمية، لو سمحتم بسؤال: ما المطلوب من عضو المجلس الشوري؟ وكيف ينبغي أن تتم مناقشة ودراسة القضايا  القانونية السياسية؟

  المطلوب من العضو الاستشاري (البرلماني) إن كان يتقاضى أجرة مقابل هذا العمل، أن يكون له مقر خاص مفتوح لاستقبال المواطنين بمعدل لا يقل عن يومين في الأسبوع، والاتصال الدائم بالمجلس الوطني، ويحرم تغيبه عن الجلسات الرسمية، وأن يبلغ كل البيانات التي تهم الشعب، بالتفصيل، لأن عضو المجلس الشوري ممثل أمين، يمثل الرائد لشعبه..أن يحرر تقريرا بيانيا كامل المعلومات عن كل إجراء يقوم به المجلس الوطني، لكل حدث، وينشره عبر وسائل الإعلام، لتبصير الأمة، أن تكون لديه المعلومات الكافية عن حاجات الوطن، والإحصاء الكامل، والمعطيات الاجتماعية، وفق المبادئ الدينية، والدستورية، والمعطيات الاقتصادية، والسياسية، لكي يناقش ويحلل، ويصدر رأيه عن علم، وبالحكمة، والدليل.

  هذا وإن مناقشة القضايا القانونية والسياسية، تتم بناء على ما تقتضيه التوقعات الاستشرافية المؤصلة بالمنطق الاستدلالي العلمي، لما يحتاجه المواطن، وبما يمليه الواقع بناء على الخبرة والتجربة، وأنتم تذكرون، موقف الحباب بن المنذر يوم بدر وهو يعطي رأيه في جزء هام من مكونات إعداد استراتيجية المعركة في جانبها المادي. قال الحباب بن المنذر، رضي الله عنه، لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدم ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي، والحرب؟) ثم بين وجهة نظره وثمرة اجتهاده، ونتائج خبرته، بالدليل مع حسن التحليل، والتعليل..وتدبروا قول الحباب، بأنه لو كان ذلك المكان الذي عينه الرسول صلى الله عن وحي من الله تبارك وتعالى، ما كان للحباب ولا لغيره أن يجتهد برأي من عنده..ومن هنا يعلم المستشار في مجلس الشورى، والقاضي في مجلس القضاء، والحاكم في هيئة الحكم، أنه لا اجتهاد مع النص المتضمن للحكم الشرعي، من القرآن أو السنة، فإن الرئيس أو الأمير أو الملك أو السلطان، ما عين على رأس الهيئة الحاكمة، أو ما كلف ليكون ممثلا للسلطة في الدولة إلا من أجل الحكم بما شرع الله تعالى،..قال الله تعالى:﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ(سورة المائدة:49) لا يستشير الحاكم المسلم أعضاء مجلس الشورى عن صناعة الخمر أو بيعه، هل يوافقون أم لا؟!! حيث يعلم، أو يجب أن يعلم بأنه يحرم على المسلمين صناعة الخمر، وبيعه. ولا يسأل عن العمل بالربا، فيحرم على المسلمين أن يتعاملوا بالبنوك الربوية، وليس من خدمة الاقتصاد في البلدان الإسلامية أن تتم التنمية عن طريق بنوك، وقروض ربوية..وإنما يستشير الحاكم العلماء الربانيين في مجالات الاجتهاد، في الشؤون الدنيوية المباحة.قال الله جل جلاله:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(سورة آل عمران:159) وقال تبارك وتعالى:﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(سورة الشورى:38)

  وعلى المستشار المسلم عند مناقشة القوانين أن يعلم حكم الشريعة في كل المسائل الشرعية التي تناقش، قال الله تعالى:﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ كمناقشة قانون الأسرة على سبيل المثال، أو مناقشة الدستور، فلابد من الاستدلال بآيات وأحاديث الأحكام، وما أجمع عليه علماء الإسلام، فلا تناقش المسائل الشرعية بالأهواء، والرغبات، والعواطف الساذجة. فلابد من معرفة الأركان والشروط من القرآن والسنة، كحكم التعدد في قانون الأسرة، مثلا وكذلك الحقوق والواجبات الزوجية، والكفالة والحضانة، والطلاق والعدة، وكذلك أحكام الميراث، وغيرها.وفي الدستور، على البرلماني أن يدافع عن الثوابت الوطنية، منها تحكيم الشريعة  في التقنين، واستعمال اللغة العربية والتعليم بها، لأنها لغة القرآن، والإسلام، والعلم، والوطن ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً معنى كل هذا أنه لابد من الارتقاء من رغبات الأغلبية الأهوائية، إلى الشورى العلمية.

  إن بناء دولة القانون والعدالة والحرية والمساواة قوامه الشورى العلمية، وترسيخ قيمة الشورى العلمية في المجالس الشورية والرأي العام للنخبة الوطنية، يحتاج إلى صبر ومصابرة وجهاد فكري كبير، ولكنها أي الشورى العلمية هي الأداة الأمثل، والوسيلة الأصلح لبناء دولة الحكومة المؤسسية، والتخلص من السلطة الشخصانية، فالحكم المؤسسي الذي قوامه الشورى العلمية يقيم الدولة التي لا تزول ولا تموت بزوال الزعماء ولا بموتهم، أما الشورى الأهوائية الحزبية والمذهبية والطائفية، تقيم سلطة تعيش لشخص، وتنتهي معه، لأن الأهواء تذهب مع الهواء﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى