غير مصنف
لماذا يتعاطف النصارى مع اليهود ؟ بقلم أ.عبد العزيز كحيل
تعاطف الغرب ” المسيحي “ ومعظم الكنائس مع اليهود ضد العرب والمسلمين أمر مشهور مسلّم به ، يثير سؤال محيّرا من الناحية الدينية هو : لماذا هذا التعاطف والتأييد لشعب يطعن في المسيحية جملة ، من النشأة إلى التعاليم والرموز ؟
فإذا كان المسلمون يعترفون بالمسيحية كدين سماوي وبالإنجيل كتابا منزّلا من عند الله ، ويبجّلون المسيح عليه السلام و أمه فإن اليهود – ومنذ ولادة عيسى إلى اليوم – يعدّونه ابن زنا ، كذّابا ، أفّاكا ، مدّعيا ، ويكفّرون أتباعه ‘لى الآن ، والأناجيل المختلفة هي في رأيهم مجرّد ضلال ، وهكذا يطعنون في إله النصرى وأمه وكتابه ، والمسيحيون يعرفون هذا جيّدا من قديم وإلى اليوم لآن اليهود لا يُخفونه بل هو معتقدهم المعلَن ، تماما كمعتقدهم في كذب محمد صلى الله عليه وسلم وضلال المسلمين كما يزعمون.
في سنة 1242 م اتّهم البابا غريغوري التاسع التلمود ب ” الكفر والطعن في الله وفي المسيح والمسيحية ” وأمر بإحراقه ، أي أن النصارى يعرفون جيدا رأي اليهود فيهم ، فلماذا التساهل الحالي معهم دينيا والدفاع المستميت عنهم سياسيا ضدّ المسلمين والانحياز الكامل إلى طروحاتهم ومواقفهم العدوانية الصارخة ؟ فمن الغرائب أن ينقض الفاتيكان في سنة 1964 م فتواه السابقة و يعتذر لليهود ويبرئهم من دم المسيح في كلام طويل واضح متذلّل ، في حين ورد ” اعتذاره ” للمسلمين عن الحروب الصليبية في سطرين بعبارات مقتضبة قابلة للتأويل.
فلماذا إذًا هذا الانحياز اللامشروط لأصحاب دين يعادونهم عقائديا ضدّ المسلمين الذين يطفح كتابهم المقدس بتبجيل المسيح عليه السلام وأمه والاعتراف بدينه ورسالته السماوية وكونه المنقذ المنتظر الذي ينصر في آخر الزمان الحقّ ويُبطل الباطل ؟
إنها السياسة والمصالح ، عندما تتحكّم في العقول والسلوك وتنتظم الدول والفكر والكنيسة ذاتها ، هنا تغلِب الدينَ وحقائقه ، فإذا أضفنا إلى ذلك عامل التاريخ صرنا أمام الصورة القاتمة التي نراها ، فالمسيحيون ينتمون إلى التراث اليهودي الذي جاءت في سياقه رسالة عيسى عليه السلام ، والكتاب المقدس عندهم إلى الآن ليس هو الإنجيل وحده بل هو ما يسمّونه العهد القديم (أي التوراة ) والعهد الجديد ( أي الأناجيل وتراث الحواريّين ) ، فليست هناك قطيعة فكرية – من جانب النصارى على الأقل – بين الطائفتين ، لكن هذه القطيعة يؤمن بها المسيحيون تجاه الاسلام الذي أعلن نسخ الشرائع السابقة ، وهناك إذًا ميل عاطفي نحو اليهود لا يشاطرهم فيه هؤلاء إلا بقدر منافعهم ومصالحهم ، أي هناك اشتراك في التراث يؤمن به المسيحيون مقابل قطيعة دينية من طرف اليهود لا تمنعهم من الاصطفاف مع غرمائهم ضدّ المسلمين ، وهذا حتى قبل احتلال فلسطين في منتصف القرن العشرين ، ففي الجزار مثلا استعان الفرنسيون بعد احتلالها بطوائف أوروبية شتى لاستعمارها وتقاسم المصالح فيها ، وكان عدد اليهود القادمين من اسبانيا وغيرها مرتفعا جدا، منحتهم فرنسا امتيازات قانونية واقتصادية كبيرة ، بخلاف ما كانوا عليه من معاناة في البلاد الأوروبية ، لذلك انحازوا لفرنسا ضدّ الجزائريين الذين هم ساميون مثلهم ، وحملوا السلاح أثناء حرب التحرير إلى جانب الفرنسيين ثم رحلوا معهم غداة الاستقلال ، فهذا واحد من الأسباب التاريخية والمصلحية التي تفسّر العلاقة المتميّزة بين اليهود والمسيحيين ، أما في الحالة الفلسطينية فالأمر اكثر جلاء وبشاعة ، ذلك أن الغرب ” المسيحي “ هو من أسس الدولة العبرية الغاصبة رغم انه لا حق لليهود فيها بأي من المقاييس القانونية والدولية ، وهو يحرسها ويدافع عنها بشراسة رغم انتهاكاتها الصارخة المتواصلة للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ، ثم إن المسيحيين الفلسطينيين الذين يرزحون تحت نير الاحتلال الصهيوني مثل المسلمين ليس لهم مواقف كبيرة في مقاومته إلا ما كان من دعوات محتشمة لضرورة السلام يطلقها رجال الدين في بعض المناسبات ، ومواقف بعض السياسيين الوطنيين المعروفين.
الأمور تسير إذًا وكأن الطرفين – اليهود والمسيحيون – تناسوا خلافاتهم وعلاقاتهم العدائية أمام عدوّ مشترك يتمثّل في المسلمين ، وهناك من يبرّرذلك بالحروب الصليبية التي ما زالت تلقي بظلالها علينا وعلى النصارى ، لكن المشكلة أن تلك الحروب كان المسلمون واليهود معا هم ضحاياها ، فهي – إذًا – السياسة والمصالح ومعها الإرث الديني التي تفسّر تعاطف المسيحيين مع اليهود وتأييدهم المطلق لهم ، باستثناء بعض أتباع الكنائس العربية في المشرق الذين اصطفوا مع الحق الفلسطيني وكان لهم حضور متفاوت في المقاومة.
بقي سؤال واحد : ماذا سيكون الموقف المسيحي حين تضعف الدولة العبرية الصهيونية وتزول – كما نعتقد جازمين ؟