قضايا الأمـــة
.. وإلى العروبة ينتسب بقلم أ. حسين لقرع
أ. حسين لقرع
أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) مؤخراً تقريراً يشيد فيه بواقع اللغة الفرنسية في الجزائر، وقال التقرير إن أكثر من 8 ملايين جزائري، أي رُبع السكان، يتحدثون الفرنسية بطلاقة، وانطلاقاً من ذلك، استنتج أن “الجزائر بلدٌ فرنكفوني”.
والواقع أن الجمعية الوطنية الفرنسية ما كانت لتجرؤ على التطاول على هوية الجزائر الضاربة في أعماق التاريخ، وتعتبرها “دولة فرنكفونية”، ناسفة بذلك المقولة الشهيرة لـ ابن باديس “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب”، لو رأت في مسؤولينا نخوة وأنفة وعزة نفس تجعلهم يحدّثون مواطنيهم بلغتهم الوطنية والرسمية، ويستعملونها حتى في تعاملاتهم الخارجية، عوض استعمال الفرنسية وحدها في مخاطبة مسؤولي مختلف دول العالم، أو كتابة المعاهدات الدولية بها، وكأنها لغة وطنية وليست أجنبية.
منذ أيام، اتصل بنا مواطنٌ من فوكة واحتجّ على وزير الصناعة بوشوارب، وقال إنه سمعه مراراً يتحدث في التلفزة الوطنية، فكانت جميعُ أحاديثه باللغة الفرنسية، ولم “يخطئ” هذا الوزير يوماً، ولو مرة واحدة، ويخاطب الجزائريين بلغتهم الوطنية والرسمية، حسب المادة الثالثة من الدستور!
كذلك كانت تفعل زهرة دردوري، وزيرة البريد السابقة، حتى أن تبجّحها بالحديث بالفرنسية ورفضها استعمال العربية، شجّع شمطاء فرنسية اسمها جونوفياف دو فونتوني على التصريح أمامها وأمام مئات الجزائريين في أوائل سبتمبر 2014 في حفل بفندق الهيلتون بالجزائر العاصمة، بأن “الجزائر فرنسية” وبرغم عمق الاهانة والإذلال النابع من الروح الاستعمارية القديمة، لم تردّ عليها دردوري، واكتفت بالانسحاب من الحفل!
أمثال هؤلاء المسؤولين، وهم كثيرون في مختلف مواقع المسؤولية، هم الذين جعلوا فرنسا تنظر إلى الجزائر ككنزٍ استراتيجي للغة الفرنسية التي تتراجع باستمرار في العالم، مع أن الواقع غير ذلك؛ فإتقان 8 ملايين جزائري للفرنسية لا يعني أنهم يعتبرونها جميعاً “لغتهم الوطنية والرسمية” وإن لم تُدرج في الدستور بسبب بقيّة حياء في دفعة لاكوست، ذلك أن الكثير منهم يتقنونها لضرورات دراسية ومهنية وحياتية لا أكثر، وقد تجد الكثيرَ منهم يتقن الانجليزية وربما لغاتٍ أخرى أيضاً..
لقد حققت السلطة للغة الفرنسية بالجزائر، وفي نصف قرن فقط، مكاسبَ هائلة لم تستطع فرنسا الاستعمارية نفسها تحقيقها طيلة قرن وثلث قرن من الاحتلال والفرْنسة؛ إذ غزت الفرنسية مختلف القطاعات والإدارات والمؤسسات والمحيط العام والفروع العلمية في الجامعات والمعاهد الوطنية… على حساب العربية. وحتى في التعليم، أريد للفرنسية أن تعود تدريجياً على حساب العربية للقضاء على مكاسب المدرسة الأساسية، فقدّمتها إصلاحات بن زاغو إلى السنة الثانية ابتدائي وأبقت على الانجليزية في الأولى متوسط حتى لا تنافسها على مكانتها، لكن التجربة فشلت فدُحرجت إلى الثالثة ابتدائي، واليوم يحتال أنصار بن زاغو في وزارة التربية لتدريس العامية مستقبلاً لضرب العربية الفصيحة وخدمة الفرنسية..
لا يمكن أن يقنعنا أحدٌ بأن المكانة الممنوحة للفرنسية في التعليم على حساب الانجليزية هي مسألة “علمية” بحتة لا علاقة لها بالايديولوجيا، وأن مكانتها في الإدارة والمحيط، عائدة إلى مخلّفات الاستعمار التي تحتاج إلى وقتٍ للقضاء عليها، فهذه الأسطوانة نسمعها منذ نصف قرن كامل دون أن يحقق تعريب الإدارة والمحيط تقدما ملحوظا ومستمرا، ببساطة لأن بقايا “دفعة لاكوست” لا تزال متغلغلة في دواليب الحكم، وتعمل على التمكين للفرنسية والترسيخ لها وإقناع الجزائريين بها وحملهم على التعايش معها كأمر واقع، فضلاً عن استمرارهم في عرقلة قانون تعميم استعمال اللغة العربية منذ عام 1992 إلى حدّ الساعة، وهو قانون غير مجمّد، ولكنه لا يُطبّق عملياً.
الجزائر استقلت عن فرنسا منذ 53 سنة كاملة.. لكنها لم تستعد سيادتها كاملة لأنها لم تسترجع بعد سيادتها اللغوية، ولا تزال الفرنسية تزاحمها في عقر دارها وتُقدَّم عليها. إنه واقعٌ مؤسف ومرير يتطلب الكثير من النضال حتى تستعيد العربية مكانتها، وهو نضالٌ شاق وطويل ما دامت بقايا “دفعة لاكوست” لا تزال تهيمن على دواليب الدولة وتعرقل تعريب البلد بشتى الطرق.