غير مصنف
ندوة (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) في الغرب: بين المولد النبوي “الإسلامي” وعيد الفصح “المسيحي” محمد مصطفى حابس : جنيف/ سويسرا
مع حلول مناسبات عطل أعياد الميلاد من كل سنة والمولد النبوي الشريف، يقفز إلى الواجهة همّ من بين الهموم المتراكمة علينا نحن الجالية المسلمة في ديار الغرب، هذا الهم مفاده التساؤل المتجدد: هل تهنئة المسيحيين بهذه الأعياد تجوز أم لا؟ خاصة أن هذه السنة يصادف فيها المولد النبوي الشريف “الإسلامي” عيد الفصح “المسيحي” وتتزامن مع عطلة الشتاء التي تدوم من 10 إلى 15 يوما، وقد يَسر الله لكاتب هذه السطور، أن شارك وحضر جانبا من الندوات المفتوحة بهذه المناسبة في كل من المسجد الكبير بجنيف والمجمع الإسلامي بلوزان وكذا في بعض المراكز الإسلامية المجاورة في فرنسا…
أمام هذا الاختلاف الحتمي والطبيعي وجب التعايش:
ومن ثم فإن إقامة مثل هذه الندوات الواعدة في نهاية السنة الميلادية ترنو منهجيا – حسب أصحابها- إلى تسليط الضوء على “حياة المسلمين في الغرب عموما وتعايشهم مع الآخر خاصة خلال مواسم الأعياد والأفراح من كل سنة”.
وبحكم هذا الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامنا من خيار غير التعاون في المتفق عليه، وإن اختلفت عقائدنا وتعددت مشاربنا وتباينت أهدافنا، وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويأتي على الأخضر واليابس.
كما لاحظ بعضنا أيضا في مثل هذه المناسبات، أن ما زاد الطين بلة جهل العديد من المنتسبين للإسلام بأولويات العمل الإسلامي في الغرب، ضاربين عرض الحائط الواقع المعيش وإكراهاته في الغرب، وما ترسب عندهم من عادات وفهومات ضيقة لبعض المسائل المختلف فيها، متناسين أن علماء الإسلام فصلوا في القضية وأشبعوها بحثا، على أن الأمر فيه سعة ويسر بدليل النص القرآني الذي هو معجزة كاملة متكاملة في كل عصر ومصر. وكما يحلو للإمام محمود بوزوزو أحد رجالات جمعية العلماء، رحمه الله (من تلامذة الشيخ العلامة ابن باديس، وأول إمام لمسجد جنيف بسويسرا)، تكراره في حلقاته في نهايات القرن الماضي، قول ابن عبد البر: “ليس أضر على الدين من مقولة: لم يترك الأوائل للأواخر ما يقولون فيها”. ردا أيضا حتى على غير المسلمين الذين ينسلخون عن آدميتهم في مثل هذه المناسبات بالسكر والعربدة والمجون، قائلا لهم “أين قيم، ومبادئ دين المسيح، عليه السلام، وتسامح المسيح من كلّ هذا؟ أو بكلمته المشهورة – الموجزة والمزعجة والمعجزة- متسائلا “أين الوفاء للمسيح يا أمّة المسيح؟”..
المسلم في الغرب يعيش ضمن ثلاث عائلات مترابطة:
وقد حرص بعض المتدخلين إلى تلخيص هذه المسألة ووضعها في حجمها الواقعي الطبيعي، وملخص ذلك أن هناك فعلا من أفتى في عالمنا الإسلامي بأن التهنئة بعيد الميلاد حرام ولا تجوز، وفيهم من قال إنها حلال مباح بل وواجبة أحيانا على شرائح معينة من المسلمين خاصة في الغرب ومؤسساتهم، لأن المسلم في الغرب يعيش ضمن ثلاث عائلات مترابطة، عائلته الخاصة الأولى مع زوجه وأهله، وعائلته الثانية مع عامة المسلمين في مسجده ومدينته، وعائلة ثالثة أوسع وأعم هي التي يقضي معها وقتا أطول هي مكان شغله، في الدراسة أو العمل، بحيث يقضي يوميا أزيد من 8 ساعات يعمل ويكد، وينام أحيانا حتى معهم، خاصة بالنسبة للذين يشتغلون بالدوام الليلي كالأطباء والحراس، بينما يقضي مع عائلته الصغرى سويعات معدودة مساء ولا يحضر أحيانا للمسجد إلا أيام العطل، ويصعب على بعضهم حتى الحضور لأداء صلاة الجمعة..
وقال معقب آخر: “حقا لقد اختلف الفقهاء المعاصرون في تكييف الحكم الفقهي للمسألة من بين مؤيد لتهنئتهم، ومعارض، ويستند كل فريق من الفريقين إلى مجموعة من الأدلة والقرائن، بحيث يرى جمهور من المعاصرين جواز تهنئة النصارى بأعيادهم، ويجيز ذلك إذا كان هؤلاء النصارى مسالمين للمسلمين، وخصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة والعمل..”، وهو نوع من البر الذي لم ينهنا الله عنه، بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم مصداقا لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، ولاسيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمين بأعياد الفطر والأضحى وعند إهلال شهر رمضان، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(النساء: 86).
وفي الحديث الصحيح ” أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ…”.
ليفهم الناس أن للمسلم أعياد في كل شهر وكل سنة بل وكل يوم، وبالتالي يمكننا اعتبار الذين يزعمون أن للمسلمين عيدين فقط، عيد الأضحى وعيد الفطر، قاصر فهمهم للدين وهم يجحفون بذلك حق الإنسانية جمعاء، خاصة في ديار الغرب، فمن باب الدعوة أن يغتنم المسلمون فرص كل الأعياد والمناسبات للتعريف بنبل وسمو وإنسانية رسالة الإسلام، وتعريف الآخرين بأن كل أنبياء الله هم أنبياء الإسلام، مصداقا لقوله تعالى:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(البقرة: 285).
“المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء” أجاز التهنئة منذ سنين:
ولذلك أجاز التهنئة “المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء” بعد استعراض مطول للأدلة يضيق المجال لسردها، خلص المجلس الأوروبي، إلى قول: “أنه لا مانع أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو حتى بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل (الصليب) فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها، مصداقا لقوله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}(النساء: 156).
كما أجاز التهنئة الدكتور محمد السيد دسوقي – أستاذ الشريعة بجامعة قطر. وقد أجازها قبله، الشيخ مصطفى الزرقا فقال:”إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه السلام ـ هي في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم.” كما أكد الشيخ سلمان العودة أن حكم الاحتفال بعيد الميلاد مع المسيحيين والكريسماس: “إنه يجوز الاحتفال مع غير المسلمين بأعيادهم شرط ألا يتعدى مظاهر الفرح بين الأصدقاء والعائلات ..”، وبرر العودة فتواه بأنها تراعي العرف وكذلك اختلاف الأزمان، ولأن “الأشياء الدينية والعادات الأصل فيها الإذن إلا إذا اقترن بقضية التشبه بالكفار..”.. ومن المجيزين الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد بجامعة الأزهر، والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ فيصل مولوي (رحمه الله).
وأجاز الشيخ محمد رشيد رضا زيارة غير المسلم وتهنئته بالعيد واستشهد بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عاد غلاما يهوديا، ودعاه للإسلام فأسلم، وأجاز أيضا الشيخ العلامة أحمد الشرباصي مشاركة النصارى في أعياد الميلاد بشرط ألا يكون على حساب دينه، وكذلك الشيخ عبد الله بن بية أجاز ذلك، وطالب المسلمين بأن “تتسع صدورهم في المسائل الخلافية”.
هذه المعاني التي يلخصها قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ. قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ..)، وهذا الحديث يبين قضيتين هامتين في أصل الإيمان بالأنبياء الذي هو أحد أركان الإيمان الستة…
الاحتفال بالمولد النبوي في الغرب محطة للتزود والدعوة:
أما الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فيقول عنه المستشار فيصل مولوي، رحمه الله،: إن ذلك جائز شرعاً ولو لم يكن له أصل بمعنى أنّه لم يحتفل به الصحابة والتابعون ولا تابعو التابعين من أهل الفقه في الدين وهم خير القرون، ولكن لما جهل كثير من المسلمين صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحياته، وكيف كان يعيش حياة البساطة والتواضع والرحمة والشفقة، وأصبحت محبة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في قلوب الكثيرين محبة سطحية، جمع أحد سلاطين المسلمين العلماء وطلب من أحدهم أن يؤلف كتاباً يتناول حياة الرسول منذ الولادة إلى الوفاة وذكر أخلاقه الطيبة العطرة، وأقام لذلك احتفالاً مهيباً وصار الاحتفال بالمولد ذكرى استحبها كثير من العلماء وبقيت حتى يومنا هذا.
إلاّ أنّه لابدّ من القول: إنّ هذا الاحتفال ليس نوعا من العبادات التي يشرّعها الله، ولكنّه من أنواع العادات والأعراف التي يخترعها النّاس، ثمّ يأتي الشّرع بإباحتها إذا لم يكن فيها حرام، وبما أن ذكرى المولد في الأصل تذكير بسيرة الرّسول (صلى الله عليه وسلم) وأخلاقه فهي مباحة وفيها من الأجر -إن شاء الله- ما لا يخفى، لكن يجب الحذر ممّا ورد في بعض كتب من انحرافات وشطحات تصل إلى حدّ الكفر أحياناً، فهذه حرام ولو كانت في غير ذكرى المولد”.وكم نحن في حاجة لمثل هذه الدروس لربط المسلمين بالإسلام والواقع وربطهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا منه الأسوة والقدوة..والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.