غير مصنف
لماذا لا يبادر المسلمون إلا عندما يُستفزون؟(3) بقلم الشيخ محمد مكركب
الشيخ محمد مكركب
قدمنا في الجزء الأول من هذا البحث توضيحا عن فكرة الإيقاظ النفسي، للإعداد والمبادرة قبل الاستفزاز، ووضعنا علامات السير على أبواب المنهج السياسي، للخروج من مستنقع اللامبالاة والانهزام إلى قلاع الإعداد والتحصين، ووضحنا ذلك في الجزء الثاني قليلا.
وكانت نتائج التحليل تشير إلى أن تكون البداية بالتخطيط العلمي، الذي يحقق ضوابط وشروط التمكين. وقلنا ما اتفقنا عليه جميعا أن جوهرَ وأساسَ المبادراتِ كلِّها يبدأ من التربية والتعليم، وأكدنا ذلك من خلال الأمثلة التي سقناها في فصول الجزء الأول، ومنها: فشو ظاهرة الاختطاف، والحرابة، والمشردين، والمخدرات، والفواحش الجنسية، والمالية، ومنها: الأزمات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
قال محاوري: معذرة مرة أخرى، قد يقال عن تحليلكم هذا بأنه كلام عام بعيد عن التفصيل، وما يجب من دقائق الأمور.قلت: يجب أن نميز بين النظري والتطبيقي، وبين ما يقال ويذاع، وما يبلغ لذوي الشأن، خاصة فيما يتعلق ببناء المجتمع، وقضايا الأمة، وأسرار الوطن. ثم بين كل هذا، وبين العموم والتفصيل. خذ هذا المثل: هناك ثلاث أزمات لا يعقل أن تحدث في البلدان العربية، ومع ذلك فهي ضاربة أطنابها، ومُسْتَوْلِية على هذه الشعوب المسكينة بكل همومها وظلامها، والسبب أن أنظمة هذه الشعوب مقيدة بعقد نفسية بالغة التعقيد، وأفكار مريضة بعقيدة التقليد. والأزمات المشار إليها، هي: أزمة التوظيف والتشغيل، وأزمة الاكتفاء الذاتي، وأزمة السكن. لا يعقل أن تكون بطالة مكشوفة ولا مقنعة في البلدان العربية، كما لا يعقل أن تظل الشعوب العربية تقتات مما تتفضل به أنظمة الدول المتقدمة في دنياها، أما الأزمة الثالثة فهي: أزمة السكن، تلك الأزمة المحزنة التي أرهقت الشباب والشياب، في كثير من هذه البلدان المتمسكنة.
وعندما يبحث الدارس، ويفكر في واقع هذه الأوساط المتلبسة بالأمية، والرداءة، والتقهقر، لا يجد مبررا ماديا واحدا لهذه الأزمات. إلا الغرق في الأوهام، وسوء التسيير وانعدام الإِحْكام. وإذن فلا ينتظر من يقرأ هذا النقد في هذا المقال، أن يجد وصفة علاجية مفصلة حسابيا لعلاج هذه الأزمات، وإنما ليعلم المعنيون بالنقد أن الطريق الموصل إلى بر الأمان ليس هو الذي يسلكون، والحل ليس في الطرائق التي ينتهجون.
قال محاوري: أو ليست هذه الأزمات حقيقة واقعة، نراها في الجزائر وفي غير الجزائر؟ ثم ألم نسمع ونرى يوميا تلك الأعمال الحثيثة، والتحركات المستمرة، والمجالس واللجان والمؤتمرات، التي لا يكاد يخلو منها يوم؟
قلت: إن حوارنا، ونقدنا، وتحليلنا يخص المبادرة والإعداد، لعدم الوقوع في هذه الأزمات وغيرها، فلا أحد يخالفك في أن الأزمات حقيقة واقعية، وإلا فما ذكرناها، كما أننا جميعا نرى ونشاهد الأعمال، والتحركات، والمؤتمرات، ولكن ليس كل عمل صالحا ومنتجا وحضاريا، ولا كل المؤتمرات هادفة، ومجدية، وصادقة. وإذا أردت الجواب المباشر، على قولك: الأزمات حقيقة واقعة، فإن أسبابها ليست موجودة لا في الحقيقة، ولا في المجاز. هذا هو التساؤل، وهذه هي الإشكالية، كيف سقطت هذه الشعوب بين مخالب هذه الأزمات دون وجود أسباب مادية، ولا مبررات منطقية؟
أمام الشعوب العربية فرصة بضع سنين، فإن لم يستيقظوا، ويصححوا أنظمتهم ومناهجهم وفق الثوابت والأصول، وأن يبدأ التصحيح بأن تنقاد السياسة للعلم، وأن تسند الأمور لمن يتصف بالحفظ والعلم والأمانة والصدق، فإن خناق الأزمة سيزداد تضييقا، وغزو الأعداء سيزداد تطويقا، والنبي، صلى الله عليه وسلم، حذر وأنذر، فقال: [وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا] ونحن نرى ونسمع في هذا العصر أن المنتمين إلى الأمة الإسلامية في مشارق وطنها ومغاربه يهلكون بعضهم، ويخربون بيوتهم، وما وصلوا إلى هذه الفتنة إلا عندما ساءت مناهج التربية والتعليم، وانحرفت عناصر القيادات والتسيير، فلما ساءت أحوال التربية، فسدت السياسة، وحلت الفوضى، وكثر الهرج والمرج.
هل هذا الكلام خاص بقطر من الأقطار؟ بل هو حال كل الأمصار، فإن النصيحة لكل الشعوب الإسلامية، بأن تستيقظ وتنهض، ولتعلم أن أوضاع المسلمين ليست على ما يرام، بل وأحوال العالم البشري لا تبشر بخير، وأن المناهج التي هم عليها الآن لا تحقق ما تطمح إليه هذه الشعوب، والواجب والمطلوب التصحيح، والتغيير. إن نتائج التحليلات والدراسات الاستشرافية تنبئ بأن سير كثير من السياسات في العالم العربي، والإسلامي، ليست في الاتجاه الصحيح..
وعليه لابد من تسليم عجلة القيادة للخبراء الحكماء الأمناء، من أبناء هذه الشعوب..{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ}لقد نهى الله تعالى المؤمنين عن تقريب أهل الكتاب وغيرهم من المنافقين والكافرين، نهى عن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين، فلا ينبغي استخدام غير المسلمين في المشاريع الوطنية، وكل ما يتصل بمصالح الأمة، لأن الكفار لا يحبون الخير للمسلمين. يقول الله تعالى:{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} فالكفار يسبون بعض المسلمين، ويتهمونهم، وفيما تخفي صدورهم، فإنهم يمكرون بالجميع. ولذلك قال تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.
إن كل الإطارات العاملة في البلدان العربية من غير المؤمنين، هم خطر خطير على هذه البلدان، فهم سبب في النزيف الاقتصادي، وعرقلة التنمية المستدامة، فضلا عن الجوسسة، وتهميش النخبة الوطنية..إن الأجنبي مهما كان لا يكون هدفه مستقبل الوطن، وبناء مدنية قوية سليمة للأجيال اللاحقة، ولا يريد إنجاح المشاريع الوطنية كإنجاز حضاري للمستقبل، إنما يريدون المشاريع الترقيعية وابتزاز الأموال…
فما هو المطلوب؟ المطلوب ثلاثة أمور:الأمر الأول: وقفة خالصة مع الذات للتقويم والتصحيح، بالمنطق العلمي، والوسائل التقنية العالية، مع الصراحة والشجاعة والاعتراف.
الأمر الثاني: اليقين بأن الحل الشامل لقضايا المسلمين، لا يكون بأيدي غير المسلمين، والخروج من التخلف لا يكون بمساعدة الكافرين، والنهضة الاقتصادية لا تتحقق بغير شمولية الإيمان.
الأمر الثالث: اعتماد منهجية المبادئ الإسلامية التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل تظن أن ما جاء في الأثر“بادروا بالأعمال سبعا“وذكر منها: الفقر، والمرض، أن هذا خاص بفرد منزو في بادية من البوادي، يبحث عن كسرة خبز، أو يحتاط بكوخ من القش، وثوب من الصوف، ليحمي جسمه من الحر والقر؟ إن هذا الأثر يحمل توجيها سياسيا عظيما في ميدان التنمية المستدامة، إنه خطاب للفرد حيثما كان، وللأسرة أينما كانت، وفي أي بيئة وجدت، وهو خطاب بالدرجة الأولى للخلفاء والأمراء والرؤساء والوزراء، ليقوموا بالوسائل العلمية والاقتصادية الضرورية حماية لشعوبهم، وللأجيال المتلاحقة من أبناء شعوبهم، ليحموهم من شر التخلف والهوان.
قال محاوري : قرأت لك في مقال سابق في موضوع اقتصادي تأكيدك بأنه من شروط التغيير والإصلاح: التلازم بين الوسائل والغايات، وبين الماديات والروحيات، فهل من توضيح مما يناسب موضوع المبادرة في التغيير؟.قلت: فمن حيث التلازم بين الغايات والوسائل، أعني بذلك الجمع بين الغاية الشرعية والوسيلة الشرعية، إذا كانت الجنة غاية المؤمن، وهي سلعة الله، فإن الوسيلة إليها هي فعل ما يحبه الله، وإذا كانت الصحة غاية لسلامة الجسم، فإن الوسيلة سلامة الأكل والشرب والثوب، وإذا كانت الغاية في بناء الدولة إرساء مؤسساتها، فإن الوسيلة صلاح الأفراد الذين يسيرون هذه المؤسسات، وإذا كانت الغاية من علم الاقتصاد الغنى المادي، وتحقيق الازدهار، فإن الوسيلة هي ترشيد واستثمار كل موارد العيش، مع غلق قنوات ومصارف الإسراف والتبذير.أما التلازم بين الماديات والروحيات، فيعني ذلك التلازم بين مقتضيات الشريعة، ومقتضيات الشؤون الدنيوية عملا بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}.
قال محاوري: كيف يتم تطبيق مدلول هذه الآيات على أرض الواقع؟ قلت: قال الله تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.