مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

الثورة الجزائرية في كتابات الدكتور أبي القاسم سعد الله بقلم أ.د مولود عويمر

عويمر مولود أ.د مولود عويمر

  لا أحب أن تمر الذكرى الثانية لوفاة أستاذي الدكتور أبي القاسم سعد الله دون أن أقف وقفة تأمل في كتاباته التي ستظل خالدة ينتفع بها الناس. وأثناء هذه الوقفة مر علي شريط من الأسئلة منها: كيف عاش الطالب سعد الله تطور أحداث الثورة الجزائرية؟ لماذا تأخر الدكتور سعد الله عن كتابة تاريخها؟ ما هي أهم قضاياها التاريخية التي درسها؟ ما هو تصوره لهذه الثورة؟ ومما لا ريب فيه أن الجواب عن هذه الأسئلة يحتاج إلى مساحة أكبر من مساحة هذا المقال، ومع ذلك أجيب عنها باختصار في الفقرات التالية.

الثورة توجه سعد الله نحو التخصص في التاريخ

درس أبو القاسم سعد الله في الكتاتيب في قمار ثم انتقل في عام 1947 إلى تونس حيث حصل على شهادتي الأهلية والتحصيل في جامع الزيتونة. ثم انتقل إلى مصر بعدما درّس سنة واحدة (1954-1955) في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الجزائر العاصمة.

انتسب سعد الله إلى كلية دار العلوم بالقاهرة فنال فيها شهادة الليسانس في الأدب العربي في عام 1959، وتابع دراسته في قسم الماجستير حيث أعد رسالة الماجستير في شعر محمد العيد آل خليفة لكنه لم يتمكن من مناقشتها بسبب سفره العاجل إلى الولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بجامعة منيسوته مبعوثا من طرف الحكومة الجزائرية المؤقتة.

إن سعد الله قد بدأ حياته العلمية أديبا كما هو واضح من مشواره الدراسي إلا أنه قرر -وهو طالب في الولايات المتحدة الأمريكية- أن يغيّر تخصصه، ويتوجّه نحو التاريخ عوضا من الأدب متأثرا بتطور الثورة الجزائرية وحاجتها إلى مثقف جزائري واعي يعرّف بها في الوسط الطلابي والجامعي الأمريكي. ولا شك أن أقوى حجج تساعده على إقناع الآخر هي موجودة في التاريخ الجزائري الذي كان هو بحد ذاته يجهل تفاصيله وخباياه.

قال الأستاذ سعد الله في هذا السياق: “أما ثورة الجزائر فقد أرغمتني على البحث وتطبيق التاريخ، أي جعلتني أدرس تاريخ بلادي الذي لم أدرسه من قبل في أي مدرسة أو جامعة، وأتحرق إلى معرفة إنجازات الأجداد والآباء، وأقارن بين ما قدموا به وما أنجزه الآخرون في الحروب والعلوم والحضارة على العموم.”

وهكذا انتقل الطالب سعد الله من دراسة الأدب العربي إلى دراسة التاريخ حتى حصل على شهادة الدكتوراه في عام 1965 في هذا التخصص العلمي من جامعة منيسوته ثم تفرغ بعد ذلك لتدريس التاريخ والبحث التاريخي لمدة نصف قرن.

ولم ينسى أيضا خلال هذه الفترة حبه الأول وهو الأدب، فكان ينشر من حين إلى آخر دراسات أدبية لكنه توقف عن نظم الشعر أو توقف عن نشره لسبب غير واضح؛ فبما غلبته عقلانية التاريخ حتى حرمته من عاطفية الشعر!

هل حان وقت كتابة تاريخ الثورة؟

كان الدكتور أبو القاسم سعد الله يرى في السبعينيات أن الظروف غير مناسبة لكتابة تاريخ الثورة الجزائرية لأن هناك صعوبات تواجه المؤرخ، ومنها: قرب أحداث الثورة منا، عدم توفر الوثائق الضرورية للموضوع، وعدم قدرة المؤرخ على قول كل الحقيقة في قضايا متعددة.

وبقي الدكتور سعد الله متمسكا بهذا الرأي لفترة طويلة، فقد ردد نفس العوائق بعد عشرين سنة، فالوثائق مازالت في نظره غير متوفرة بشكل يجعل الأحكام تصدر عن موضوعية ونزاهة، وأن البعد الزمني لم يختصر بعد للكشف عن بعض الأحداث التي يمكن أن تؤثر سلبا على الأحياء وحياة الناس في الوطن وخارجه.

غير أن الدكتور سعد الله عدّل رأيه بعد أن زالت بعض العوائق معتبرا –بالعكس- أن التعليلات التي تطرح عند إثارة إشكالية كتابة تاريخ الثورة هي من صنع الكسالى والمثبطين وذوي الأغراض الخاصة الذين ليس من مصلحتهم أن تظهر الحقائق.

وبالإضافة إلى الصعوبات السابقة، اعترف الدكتور سعد الله بصعوبة أخرى لم يكن يذكرها من قبل، وهي تتمثل في غياب الجو المساعد على البحث التاريخي العميق، فحرية التفكير والتعبير ما زالت بعيدة عن المستوى المطلوب والأمل المنشود.

هل يبقى الباحث ساكنا لا يتحرك بذريعة أن الظروف غير مواتية بعد، أم يجتهد في حدود الممكن ويلوج إلى موضوع الثورة ليدرسه من الجوانب المتاحة؟ الواقع أن الثورة ليست فقط موضوعا تاريخيا يهتم به فقط المؤرخون، بل هي توفر مادة خصبة للتخصصات الأخرى، فالأديب يستلهم من بطولاتها وأحداثها لكتابة قصص وروايات ومسرحيات، وعالم الاجتماع يدرس حياة المعتقلين في السجون والمحتشدات، وعالم الاقتصاد يتناول حركة التموين والتمويل وعلاقة المجاهدين بالزراعة والتجارة…الخ

وهكذا، أقدم الدكتور سعد الله على تأليف كتاب حول الثورة التحريرية، وكتابة مجموعة مقالات ودراسات في مجلات جزائرية وعربية، ونشر رسائل شخصية وعامة، ونصوصا ووثائق نادرة مثل قصيدة الشاعر اللبناني محمد علي الحوماني، ومحضر اجتماع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1956.

كما ترجم الأستاذ سعد الله إلى اللغة العربية دراسات غربية في هذا المجال مثل دراسة الباحث الأمريكي روبرت حول: “حرب الكلمات الجزائرية. البث الإذاعي أثناء الثورة 1954-1962″، وبحث الأستاذ جورج جوايو حول: “ألبير كامو والثورة الجزائرية”…الخ.

لقد جمع الدكتور سعد الله هذه الأعمال ونشرها في كُتب متعددة تضمنت مقالات وبحوث متفرقة، أذكر منها: منطلقات فكرية، في الجدل الثقافي، تجارب في الأدب والرحلة، أفكار جامحة، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر.

الثقافة في قلب الثورة

لقد اختار الدكتور أبو القاسم سعد الله دراسة تاريخ الثورة الجزائرية من خلال تناول جوانبها الثقافية، فهي أقل خطورة من تاريخها السياسي والعسكري والدبلوماسي. وبناء على ذلك، أصدر كتابا حول “تاريخ الجزائر الثقافي 19541962″، وهو جزء مكمل لموسوعته الضخمة “تاريخ الجزائر الثقافي” عبر العصور.

ولم يتمم الدكتور سعد الله موسوعته حول الحركة الوطنية فاكتفى ب 3 أجزاء متوقفا عند عام 1945 دون أن يكمل الجزء الرابع الذي أعلن عن رغبته في تأليفه، وهو يمتد إلى عام 1962.

إن الأخطار ستظل دائما موجودة، سواء كتب عن التاريخ السياسي أو الثقافي أو العسكري … مادام المؤرخ يتعرض للأشخاص والنُخبة “التي قد ترى في الأحكام الصادرة عنها خطرا عليها أو تزكية لغيرها.”

أما منهج الدكتور سعد الله في هذا الكتاب فهو لا يختلف كثيرا عن المنهج الذي اتبعه في الأجزاء الأخرى من موسوعته الكبرى، فكان المؤلف يركز على الحياة الثقافية في الجزائر في فترة الثورة التحريرية من خلال دراسة النصوص الرسمية لجبهة التحرير الوطني والحكومة الجزائرية المؤقتة والمنظمات الجماهيرية التابعة لها في مجال الهوية الثقافية، ومتابعة مختلف الأنشطة الثقافية في الإعلام والمسرح والموسيقى والسينما والفنون والأدب والنشر …الخ.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الأستاذ سعد الله لم يؤرخ في هذا الكتاب لإسهامات الثورة في المجال الثقافي فقط، وإنما أرّخ أيضا للحراك الثقافي الجزائري خلال فترة 1954-1962. فقد كتب عن المساهمات الثقافية للجزائريين سواء في الجزائر أو خارجها، ذلك بأن جبهة التحرير الوطني ثم للحكومة الجزائرية المؤقتة كانت تقوم بنشاطات ثقافية كثيرة للتعريف بالتراث الجزائري، لكن أكبر هذه الأعمال كانت تقدم خارج التراب الجزائري في إطار الجهود الرامية إلى تعبئة شعوب العالم للتضامن مع الشعب الجزائري في كفاحه من أجل استرجاع حريته وسيادته.

نشاط الثوار الجزائريين في القاهرة

لقد وصل الدكتور سعد الله إلى القاهرة في فبراير 1956 قادما إليها من الجزائر لمواصلة دراساته العليا في الجامعة المصرية. وقد وجد العاصمة المصرية تعج بالنخبة الجزائرية التي استقرت في مصر من أجل تدويل الثورة التحريرية وتعبئة الشعوب العربية لمساندة كفاح الشعب الجزائري.

ودون تردد وتأخير اتصل الطالب سعد الله بأبرز القادة الجزائريين المقيمين في القاهرة أو العابرين منها في مهمات سياسية وعسكرية. وهكذا تعرف مع مرور الأيام على محمد البشير الإبراهيمي وأحمد توفيق المدني وفرحات عباس ومحمد خيضر وبن يوسف بن خدة ومحمد الأمين دباغين…الخ.

وهكذا ارتبط مبكرا بالعمل الثوري دون أن يخطط له مسبقا، فقد جاء من الجزائر وكله عزيمة للتحصيل العلمي في الجامعة المصرية التي كان يحلم بالدراسة فيها كل الطلبة الجزائريون، وغامر بحياته في سبيل ذلك، ومن أجل التعرف على أكبر الأدباء والشعراء المصريين والتتلمذ عليهم.

لذلك لم يقتصر الطالب سعد الله على مزاولة الدراسة والاتصال بقادة الثورة الجزائرية في مصر، فقد انخرط في الكفاح الوطني مسخرا قلمه ولسانه للدفاع عن القضية الجزائرية فكتب مقالات في الصحافة المصرية، ونظم قصائد ثورية، وتحدث في الإذاعة المصرية، وألقى خطابات في المهرجانات الشعبية المخصصة للثورة الجزائرية.

وفي هذا الإطار، انضم إلى جمعية الطلبة الجزائريين في مصر، وتحمّل بجدارة مسؤولية التنشيط الثقافي. وقد سجّل الدكتور سعد الله كل هذه الأعمال واللقاءات في الجزأين الأول والثاني من يومياته: “مسار قلم”.

كما تضمن هذا الكتاب معلومات غزيرة عن متابعة الصحافة المصرية ليوميات الثورة الجزائرية خاصة الجرائد التالية: الجمهورية والأهرام والأخبار والمساء التي كانت تنقل عن وكالات الأنباء والصحف العالمية كل ما له صلة بهذه الثورة التحريرية من أحداث وآراء ومواقف.

الثورة الجزائرية: قيم ومبادئ

لقد كانت الثورة الجزائرية في نظر الدكتور أبي القاسم سعد الله جهادا عسكريا وكفاحا سياسيا ونضالا إعلاميا ونشاطا دبلوماسيا وحراكا ثقافيا ورسالة أخلاقية ومشروع دولة ساميا. هكذا يجب أن يكتب تاريخ الثورة، ويعلم للكبار والصغار، ويدرس في الندوات والمؤتمرات ليكون مصدر إلهام واعتزاز، حتى يساعد على “تثبيت الذات وحفظ الهوية” لأن تاريخ كل شعب كما يرى الدكتور سعد الله ” ما هو في الحقيقة إلا حجمه في التاريخ الإنساني”.

ومن ناحية أخرى، لاحظ الدكتور سعد الله أن العديد من هذه القيم والمبادئ تراجعت في المجتمع الجزائري، وأخرى غابت عنه، ولم يعد لها تأثير في حياة الناس. وكل هذا يشكل خطرا على مستقبل الأجيال التي ستواجه التحديات القادمة بدون بوصلة ترشدها إلى بر الأمان. فقوة ثورتنا تكمن في القيم العليا التي نادت بها، وضحى من أجلها الأبطال، وليست فقط الوقائع والأحداث الكبرى التي صنعها المؤمنون والمؤمنات بالنصر القريب.

وبناء على ذلك، فإني أتفق مع رأي الدكتور سعد الله بشأن مصير “الحدث التاريخي الكبير”، فإذا “لم تظل شعلته في ارتفاع خبا وتلاشى، وأصبح شرخا صغيرا في جدار التاريخ الفولاذي”.

وخلاصة القول إن الدكتور سعد الله كتب حول تاريخ الثورة الجزائرية بعد حذر شديد وتريث طويل، فألف كتابا حول تاريخ الجزائر الثقافي في الفترة 1954و1962، ونشر عدة دراسات ووثائق ونصوص في هذا المجال. ويتضح من عناوين كتاباته عن الثورة، وهي تمثل جزء يسيرا من كتاباته التاريخية، أنها تدور كلها بشكل أو آخر في الجوانب الأدبية والثقافية والإعلامية، ولا تتطرق إلى الاختلافات الإيديولوجية الصراعات حول القيادة وما ترتب عنها.

إن وجود أعمال الدكتور أبي القاسم سعد الله حول الثورة التحريرية في كتب متفرقة جعلت بعضها مغمورة رغم قيمتها العلمية، ولا ينتبه إليها إلا القارئ الفطن والباحث العارف. فلا شك أن إعادة تنظيمها ونشرها في كتاب واحد مستقل ستضاعف من زيادة الاستفادة من قراءة تلك الأعمال، وتسهّل الاقتراب منها لدراساتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى