غير مصنف
المناكر: بين الرضا عن بعد.. أو الإنكار من قريب بقلم: أ.د محمد عبد النبي

بعض المناكر صار لها مع الإلف عشرة، وأخرى لا يُدرى أن لها في سلك الكبائر ترتيب، وقد ينافح آخرون عمن يجاهر بالإثم أو الإفك، أما أن يُرضى بالفواحش أو أن يوالى كافر ويُستعدى مسلم: فسقوط في قاع الرذائل، واجتراح لمعاصي البواطن، يُخشى معهما أن يُعصف يوما بمن رضي، وبمن لم يرض. قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
أخرج أبو داود (4/124) والطبراني في المعجم الكبير (17/139) عن العُرس بن عميرة الكندي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “إذا عُملت الخطيئة في الأرض: كان من شهدها فكرهها-وقال مرة: أنكرها- كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها“وانظر: (صحيح الترغيب والترهيب (2/288).
وقد رُوي موقوفا على ابن مسعود، حيث أخرج الطبراني في المعجم الكبير(9/180) عن عون قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: إن ابن مسعود كان يقول: “إنها ستكون أمور مشتبهة، فمن رضيها ممن غاب عنها فهو كمن شهدها، ومن كرهها ممن شهدها فهو كمن غاب عنها، فأعجبه”.
وأخرج مسلم (3/1481)عن أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا“.
لقد استقر في هذا الدين أن أساس الأقوال والأفعال هو القلب، وأنه محل النوايا والقصود، والرضا والإنكار، ولذلك رُفع الحرج عمّن أُكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وجبت التوبة-بشروطها- ما سلف من آثام، وأولها الندم، وهو من أعمال القلوب، فالرضا عمدته الاختيار وانتفاء الحرج، ولذلك أُمرنا بالرضا بالقضاء والقدر، خيره وشره، وأُرشدنا إلى أنه لا يتمّ إيمان امرئ إلا بأن يسلِّم بحكم الله، وألا يجد في نفسه حرجا مم قُضي له به أو عليه، وهو غاية الرضا.
وإذا رضي مسلم بانتهاك المحارم واجتراح المعاصي فذلك إيذان بمسخ أتى على قلبه، فكيف بمن يُشيع المعصية، أو من يأمر بها؟ وقد يُخشى أن تكون المساهمة في ترديد الأقاويل والإشاعات في أعراض الناس من هذا القبيل، وقد أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/28) لآية {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا…} قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته”(37/88).
وقد أدرج ابن القيم في المدارج (1/133) في كبائر الذنوب: “الفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم (وقد يكون قدرا زائدا عن الرضا بالمنكر) وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم..”.
إن التحلل من هذا الأمر الشائن أن يتحرك المسلم لتغيير المنكر، باللسان أو اليد، ضمن شروط ذكرها العلماء، حتى لا يتم الافتئات على الحاكم وعلى مَن يمثِّله، فإن لم يستطع فالإنكار بالقلب هو أدنى الإيمان، كما ورد في الحديث المشهور، وكما ورد في هذا الحديث، لكن الإضافة التي فيه هي ما يتعلّق بشهود المعصية أو الغياب عنها، وأن العبرة في البراءة ليست في الحضور، وإنما هي بالرضا أو الإنكار، فمن رضي بالقتل والتعذيب -أو هلّل وشمت- الذي يحصل في بعض البلاد آثم، حتى ولو لم يكن من أهلها، ولم يشهدها، ومن أنكر هذا المنكر أو غيره -بقلبه-برئت ذمته، ولو كان من الشهود، وإن كان البث المباشر يجعلنا جميعا من الشهود !