غير مصنف
لذائذ الشوق..إلى القيم(1) بقلم أ.د محمد عبد النبي

ليس سهلا أن يكون المرء معتدلا في الفكر والسلوك والوجدان، وما أسهل أن يُرسل العنان لنفس تموج بالشهوات، ولئن أسعف العاقلَ اعتدالٌ في خلة فقد يخونه التوفيق إليه في خلة أخرى، ولئن حاز إعجابا في مسلك معلَن هنا فقد يفضحه مسلكُ سرٍّ هناك، قد يكشفه أقرب الناس إليه في شقاق بعد وِداد، وما أوتي الناس إلا من دعاوى تُرسَل في أوقات العافية، فإذا ما قُدِّرت عليهم ظروف سارعوا إلى التنصّل مما يدّعون.
أخرج النسائي (3/54) وابن حبان (5/305) عن عمار بن ياسر أنه سمع دعوات من النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان منها: “…وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين“.
هي أدعية من نوع خاص، تروم تحقيق قيم تعزّ، ولا يدعو بها إلا نبيّ، ولذلك يطلب عليها ثوابا في الدنيا يختلف عن كل ثواب، فالخشية في الغيب وفي الشهادة مطلب عزيز، يتعلّق بالصدق الذي هو أمّ الفضائل، فقد يبدو على الكثيرين أنهم على سبيل هدى، من صلاة وصيام وزكاة وحج، فإذا ما عُرضت عليهم صفقة كبيرة تنتابها الشكوك، أو تُشترط لها الرِّشى استجابوا من دون حرج، أو تمنّعوا قليلا رجاء التحلل بفتوى، لا يبخل بها ضنين، وكم من أناس تبدو عليهم أمارات الرزانة والتعقّل تباغتك منهم أحوال، يتنكّرون فيها لكل اعتدال عُهد منهم في قول أو عمل، وقد يصدر عنهم -فيما إذا غضبوا- سباب أو شتائم لا تصدر إلا عن رذالة القوم، وأما القصد في حال الغنى فتوّسط في المأكل والمشرب والملبس، من غير تبذير أو تقتير، وأما القصد في الفقر فقد يقال: كيف يتأتّى لفقير أن يبتغي القصد أو أن يأخذ بالأمر الوسط؟ وقد لا يسعفه ما يملكه في توفير الطعام، إلا لمرة في اليوم، والأمر نسبي: إذ لا يجرؤ أحد على ادعاء أن قصد الغنيّ ينبغي أن يكون مثلَ قصد الفقير، والعكس ممتنع أو غير مقدور عليه، فنخلص إلى أن لكل واحد منهما قصده واعتداله، ولكن كيف يتصور هذا المطلب عند الفقير؟ قد لا نملك جوابا حاسما إلا أن نورد حديثا أخرجه أبوداد (4/51) وأحمد (23/142) وابن حبان (12/294) عن جابر وفيه: “ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا في منزلنا، فرأى رجلا شعثا: قد تفرق شعره، فقال: أما كان يجد هذا ما يُسكِّن به رأسه؟ ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال: أما كان يجد هذا ماء يغسل به ثيابه“ فيقال: قد يركن الفقير إلى القعود بحجة فقره، حتى لا يكنس بيته، أو لا ينظف ثيابه، فهذا حقيق به أن يكون القصد في حقه أن ينطلق من المتاح لتحقيق التوسط المبتغى في حقه، قال المناوي في الفيض (2/165): “…وقد كان المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحافظ على النظافة، وكان يربط على بطنه الحجر من الجوع، ولا يترك الطيب، ويتعهد أحوال نفسه…”.