تحاليل وآراءقضايا الأمـــة
فرنسا تتأخر في أوروبا وتتقدم في الجزائر! بقلم أ. عبد الحميد عبدوس
أ. عبد الحميد عبدوس
من الواضح أن فرنسا قد فقدت الطموح في تصدر سباق القيادة الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية للعالم، كما يتضح ذلك في كتاب (صدام الإمبراطوريات) للباحث والإعلامي الفرنسي ميشيل كاتربوان الذي تحدث بكثير من الحرقة عن القرن 21 الذي لن يكون فرنسيًّا، لأن أمريكا والصين وألمانيا هي فقط الدول (أو الإمبراطوريات) التي سيكون لها دور حاسم في رسم معالم الاقتصاد العالمي خلال هذا القرن. ويدعم الكاتب وجهة نظره بالإشارة إلى أن فرنسا راكمت الأخطاء خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، وكان خطؤها الفادح، حسب الكاتب ميشيل كاتربوان، هو أن فرنسا لم تتفاوض جديًّا بشأن توحيد ألمانيا، فالانفتاح الأوروبي على ألمانيا وعلى الشرق أضرَّ بقوة فرنسا ومستقبلها التجاري والمالي، وأسهم في استمرار عجز ميزانها التجاري إلى الحدِّ الذي جعل الدوائر السياسية الفرنسية اليوم تُجمع على أن “ألمانيا التهمت الدور الفرنسي في الاقتصادي العالمي”. وبرغم النزعة الفرنسية الواضحة لصاحب الكتاب، فإنه لا يخفي إعجابه بالاستراتيجية الألمانية في اللعبة الاقتصادية العالمية، فمنذ تفكيك أوروبا الشرقية وتوحيد ألمانيا تحوَّل ميزان القوة من دول أوروبا الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا لمصلحة ألمانيا لتصبح برلين هي مركز أوروبا وليس باريس ولا حتى لندن. ويُرجع الكاتب هذا التفوق إلى السياسة الاقتصادية الألمانية القائمة على التوازن الصارم بين السياسة الحمائية والسياسة الميركانتيلية. كما يؤكد أن الرؤساء الفرنسيين يجهلون قوانين اللعبة الاقتصادية العالمية، فالرئيس فرانسوا هولاند يعرف الكثير عن الداخل الفرنسي لكنه لا يعرف الكثير عن العالم، في حين أن المستشارة الألمانية ميركل تقوم سنويًّا بزيارة خاصة للصين والصينيون اليوم لا يعرفون أوروبا إلا من خلال منظور ألماني خالص.
ولكن رغم ذلك فإن فرنسا مازالت على ما يبدو متمسكة بطموحها في أن تبقى قوة لغوية أو على الأصح قوة ثقافية رئيسية في العالم، وهي تعتمد بالأساس على إرثها اللغوي في مستعمراتها القديمة، بسبب تمسك أغلب النخب الحاكمة في تلك المستعمرات القديمة باستعمال وحتى نشر اللغة الفرنسية في المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية، واعتمادها أداة للتفاخر اللغوي والتميز الاجتماعي.
لقد أظهرت إحصائيات المجلس الأعلى للفرانكوفونية أن المستعمرات السابقة تحتل مراتب متقدمة في ترتيب الدول المستخدمة للغة الفرنسية، على غرار الكونغو والجزائر والمغرب …
واللافت للانتباه أن تعامل الصحافة الجزائرية مع تقرير المجلس الأعلى للفرانكونية قد تباين بشكل صارخ وصل إلى حد التناقض في معالجة معطيات التقرير، ففي حين وضعت جريدة “لوجان أنديباندان” (الشاب المستقل)، وهي جريدة يومية تصدر باللغة الفرنسية، الجزائر في المرتبة الثانية في قائمة الدول الفرانكوفونية وراء فرنسا مباشرة، وقالت أن عدد المتكلمين باللغة الفرنسية في الجزائر وصل إلى60 % من السكان، أكدت جريدة الشروق اليومي، وهي يومية تصدر باللغة العربية أن الجزائر تأتي في المرتبة الرابعة في قائمة الدول الناطقة بالفرنسية، بعد كل من فرنسا والكونغو الديمقراطية وألمانيا، ونشرت جريدة الشروق اليومي ترتيب الدول الفرانكوفونية بلغة الأرقام على النحو التالي:
فرنسا، في المرتبة الأولى بنحو 62.9 مليونا، تليها في المرتبة الثانية الكونغو الديمقراطية (مستعمرة فرنسية سابقة) بنحو 33.2 مليون متحدث بالفرنسية، ثم ألمانيا الاتحادية بواقع 11.9 مليونا، ثم الجزائر رابعة (11.2 مليونا)، والمغرب (مستعمرة سابقة) بنحو 10.6 ملايين، ثم المملكة المتحدة سادسة بواقع 10.5 ملايين.
كما قالت أن عدد المتكلمين باللغة الفرنسية في الجزائر الذي يقدر بنحو 11.2 مليون نسمة، يشكل ما يعادل نسبة 28 بالمائة من مجموع الجزائريين البالغ عددهم نحو أربعين مليون نسمة، وليس إلى60 % من السكان، كما ذكرت ذلك جريدة “لوجان انديباندان”!
لقد تفاعلت جريدة “لوجان أنديباندان” بشكل يكاد يكون تبشيريا وتفاخريا مع الجزء المتعلق بالجزائر في تقرير المجلس الأعلى للفرانكوفونية مؤكدة أنه “عكس كل التوقعات فإن اللغة الفرنسية التي حاولت بعض الإصلاحات التربوية طردها بطريقة فضة من المشهد اللغوي، مازالت بخير في الجزائر…”. وتضيف مستشهدة بقول البروفيسور شمس الدين شيتور”إن عدد الفرانكوفونيين الذي كان لا يتجاوز مائة ألف شخص بعد خروج الاستعمار الفرنسي من الجزائر يفوق اليوم عشرة ملايين شخص”.
ليس خافيا أن الجزائر المستقلة (شكليا) عن فرنسا صرفت منذ 1962 مبالغ طائلة لتعليم لغة المستعمر وتدعيم مكانة اللغة الفرنسية في البلاد، وقد مارست السلطات الحاكمة بشكل متفاوت قهرا لغويا على الشعب تمثل خصوصا في إجبار الداخلين إلى سوق التشغيل بالتخلي عن اللغة العربية التي تعلموها في المدرسة، واكتساب اللغة الفرنسية التي تستعملها الإدارة وتتكلم بها طبقة الإطارات العليا في المؤسسات الاقتصادية والمصالح الإدارية.
وإذا كان صاحب كتاب (صدام الإمبراطوريات) يتحسر على تراجع المكانة الاقتصادية والسياسية لفرنسا في العالم مشيرا إلى أن الصينيين ولا ينظرون إلى أوروبا إلا من خلال عيون ألمانيا، فيمكن القول قياسا على ذلك أن دول أوروبا، وأغلب الدول الغربية لا ينظرون إلى الجزائر إلا من خلال عيون فرنسا ونصائحها لهم بطريقة التعامل مع الجزائر!