كلمة الرئيس
خطاب إلى أخي الحاج “س” بقلم أ.د عبد الرزاق قسوم
يا أخي الناسك، أيّها الحاج “س” من بلاد “س”. سواء أكنت من بلاد الهند أم بلاد السند، وسواء أكنت من أفغانستان أو أزبكستان أو كردستان أو داغستان، أو “داعشتان” أو كنت من وهران أو طهران، أو الظهران أو فزان أو عمّان، فأنت في النهاية حاجٌ مسلم، أديتَ المناسك، وعدتَ إلى ناسِكْ. ولكن بأيِّ المناسكِ أخذتَ؟ وبأيِّ المعاني الدينية عُدتَ؟.
فإنّك الآن، وقد عُدتَ إلى بلادِك، تعيشُ ذكريات الحجّ هذا العام، وكم في الحجِّ من مشاهد، يظلُّ الحاجُ يعيش على فصولها ردحًا طويلاً من الزّمن.
إنّ المشهد العالمي الكوني، الذي يقدِّمه منسكُ الحجِّ، لهو من المشاهدِ النادرة، التي قلّ أن يعثُر عليها إنسان في غيرِ الحجّ. فهذه البساطةُ في اللّباسِ، ممثلة في رمزية الكفن درسٌ لما بعد الموتِ، يعيشه الإنسان مذكِرًا إيّاهُ بما يخرجُ به من هذه الدنيا، أيًّا كان منصبُه، ومهما يكن موقِعهُ، وأيًّا كانت أملاكه في الحياة الدنيا.
ويتساوَى الكلُّ في هذا المكان، بينَ الحاكِم والمحكومِ، والعنيِّ والفقير، والعالِمِ والأميِّ، والعربيِّ والأعجمي، والأبيض والأسود، والقاصي والدّاني، كلّ ذلك يمثِّل درسًا آخر في العدل، والمساواة، تذكيرًا بوقوفنا يوم العرضِ الأكبرِ أمام الله.
وأمّا التلبيّة بلسانٍ جماعي واحد “لبيكَ اللّهمَ لبيك!” ممزوجةً بالأنين والدّموع والذهولِ عن الدنيا، والارتباط بالعالم الأخرويّ طلبًا للاستغفارِ، والتّوبة، فتمثِّلُ أيضًا مشهدًا فريدًا آخر يذَّكِرنا بزلزلة السّاعة {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }الحج2.
كلّ هذه المشاهد الرّائعة المروِّعة، يعيشُ الحاجُ الآن على وقعِها، وعلى هولِها، ليُدرِك سرَّ الحجِّ، وما بعدهُ، فيتيقن بأنّ منسكَ الحجِّ لا ينتهي بالتحلّلِ من الإحرامِ، وأداءِ طوافِ الوداعِ، بل أنّه عهدٌ ستظلُّ تبِعاتُه تلاحِق الحاجَّ بعد أن أخذ عهدًا من الله أن يستقيمَ، ويستكينَ، فيتحلّلَ من كلّ الآفاتِ التي كانت قبل الحجِّ، ومن المظالِم، والمفاسِد الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الأخلاقية، أو السياسية، ليصيرَ كيومِ ولدتهُ أمّه صفحةً بيضاءَ، يوشِكُ أن تُصافحه الملائكة.
غيرَ أنّ الحجَّ دروسٌ، وعبرٌ أخرى غيرَ ما توحِي به المشاهِدُ الماديّة، من بساطةٍ وزهدٍ وتنسُّك. إنّها غسلٌ للرُّوحِ من أدرانها، وطهارةٍ للقلب من وساوِسِه، وعروجٌ بالعقلِ إلى ملكوتِ الله، وإحساسٌ بعمقِ الانتماءِ إلى هذا الدّينِ الإسلاميِّ في سموِّهِ وعلوِّهِ، وطهرِه وذخره، للشعورِ بالعزّةِ والقوّة من حيث العدَّة والعدد، فيسمُو المسلِم بذلك عن الغثائيةِ، ليعبُر من ذلك إلى الوِحدةِ في الإمامةِ، والقيادةِ، والانقيادية.
لكن –وا أسفاه- هناكَ في الحجِّ مشاهد تنغِّصُ على الحاجِّ الواعي شعورَه بالانتماءِ، وإحساسَه بالعزّةِ، وتوقانَه نحو الأفضلية البشرية.
فلا تزالُ بعض المناظر التي يقدِّمها حجيجُ المسلمين في المشاعرِ تعلُو -أحيانًا- عن مشهدِ الانضباطِ، والسيرِ على الصّراط، والوقوعِ في الكثير من الأخطاء والأغلاط.
فهذه الفوضى التي لا نزال نعيشها في الطوافِ حول الكعبة، وما يصاحِبها من تزاحمٍ على الحجرِ الأسود لتقبيله، بأيِّ ثمن، ولا نراعي في ذلك حرمة المرأة، ولا عجز الشيخوخة، ولا ضعفَ المريضِ أو المعاق، هي فوضى تفسِد على الحاجِّ تسبيحاته الملكوتية، وتذَّكِرهُ بالحقيقة المرّة، وهي تخلّفُ الإنسان المسلِم بالرّغمِ مما يتمظهرُ به من نُسك، وما يجب أن يتحلّى به من إيمان، وأمن وأمان.
وهذا التّدافع أمام مشعرِ منًى، وما صحِبَه من عنفٍ مميتٍ، واندفاعٍ مقيتٍ، قد شوّهَ المنظرَ، وزرعَ المأساةَ حولَ المشعرِ، وحوَّل “الحجَّ الأكبرَ” إلى سلوكٍ مشين، وتديُّنٍ أخطَر.
هذا إضافة إلى اللامبالاةِ في رميِ الأوساخِ وعدمِ الوقايةِ من أسباب الاتّساخِ والانسلاخِ، وهي كلّها مناظر تُضعِف الجهودَ المبذولةَ التي تُذكَرُ فتُشكَر من القائمين على المشاعر، فتشوِّهُ صورة المسلمين في أقدسِ البِقاعِ، وتُقدِّمُ أبشعَ منظرٍ عنهم لباقي الأصقاع.
إنّ الحقيقة التي لا مِراءَ فيها –بالرّغمِ من كلِّ هذا- هي أنّ القائمين على شؤونِ الحرمين، يبذلونَ كلّ جهدٍ في سبيلِ خدمةِ “ضيوفِ الرّحمن” فهم ينفقون من أجلِ ذلك كلّ ما أمكن، لتسهيل مناسِكِ الحجِّ، ولكن هذا الجهد يوشِكُ أن يتداعى على صخرةِ فوضى بعضِ المسلمين الذين يأتونَ إلى الحجِّ دون إعدادٍ، وبلا زاد، فيشيعون في الحجِّ الفوضى والفساد.
وإنّني بدافعٍ من الإيمانِ بضرورةِ إصلاحِ المشاهدِ المؤذيةِ في الحجّ، والتقليل من بعض المناظرِ المفسِدةِ على الحجيجِ عمقَ تأمّلهم وسموَّ تنسُّكِهم أهمسُ في آذانِ القائمين على الحجِّ ببعضِ المقترحاتِ التي آملُ أن يُستجابَ لها، أو أن تكونَ محلَّ دراسةٍ من جانبِ الهيئة العلمية المكلَّفة بمشاعر الحجِّ وتتمثّل المقترحات في ما يلي:
إعادة النظر في مسألة الطواف والسّعي، فيعادَ تنظيمها إمَّا زمانيًا أو إقليميًا في وقت الحجّ، بحيثُ يُخصّصُ زمن معيّن أو طابق معيّن لبلدٍ ما أو منطقة ما، في حدودِ ما يَسمحُ به التنظيم.
توحيد الفتوى –على جميع المذاهِب– بالنسبة لرميِ الجمرات، من حيث الزّمن، وما ينتج عن ذلك من الوقوف بمزدلفة، مراعاةً للمصلحة العامّة.
العودة إلى ما كان عليه المسجِدان في مكّة والمدينة، من فتحهما أمام كلّ المذاهب، بحيث يمكن أن يصلي النّاس فيهما أئمة كلّ مذهب. فالنّاس يتساءلون –مثلاً- عن القنوت، الذي تقول به كلّ المذاهب ماعدا المذهب الحنبلي، لماذا يغيبُ القنوت بتاتًا من صلاةِ الصّبح؟ لماذا لا يُصلي الأئمة بالقنوتِ أحيانًا وبدونه أحيانًا أخرى تجسيدًا لمبدأ الانفتاح المذهبي، وتبيانًا للتنوّع المذهبي داخل الوحدة الإسلامية.
نريد من خادِم الحرمين الشريفين، الملك سلمان –حفظه الله- أن يضيف إلى مكارمِه مكرُمة استدعاء أئمة ومقرئين من العالم الإسلامي –في رمضان- مثلاً، لإمامةِ المسلمين في الحرمين الشريفين، وإيفاد أئمة الحرمين إلى باقي أقطار الأمّة الإسلامية تعميمًا للفائدة، وفي إطار التكامل الإسلامي.
تزويد الحرمين الشريفين بمصاحف على مذهب ورش وغيره، كترسيخٍ لحقائق معرفية، يتعبَّدُ بها المسلمون في بلدانهم، وتطبيقًا لواقع المسلمين الذي يتوِّجُه الحرمان الشريفان.
إنّني بدافعِ من الحرصِ على إصلاحِ ما يمكنُ إصلاحه، أطلق هذه المقترحات، التي لا أريد بها إلاّ وجه الله {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }هود88.