غير مصنف
“مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط” والدراسات الإسلامية بقلم أ.د مولود عويمر
أ.د مولود عويمر
اعتمد المستشرقون في نشر أعمالهم العلمية والترويج لأطروحاتهم الفكرية في أوروبا والعالم الإسلامي على وسائل متعددة، وكان من أبرزها إصدار المجلات. وهكذا عرفت الحياة الثقافية والأكاديمية في القرن العشرين مجموعة كبيرة من الدوريات الاستشراقية في أوروبا وفي مستعمراتها كانت لها تأثير كبير في مجال الدراسات الشرقية، وتغيير ذهنيات النخب العربية والإسلامية، ومازالت بعضها تصدر إلى اليوم رغم مرور فترة طويلة على ظهورها. وسأتوقف في هذا المقال عند واحدة من أشهر هذه المجلات، وأكثرها جدية وموضوعية، وهي: “مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط”.
مـستشـرق ومجلـة
صدرت “مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط” في بداية عام 1966 في مدينة إكس –أون- بروفانس بجنوب فرنسا، بإشراف مؤسسها ومديرها روجيه لوتورنو الذي التحق بجامعتها بعد سنوات قضاها في جامعة الجزائر.
ولد لوتورنو بباريس في 2 سبتمبر 1907، وتوفي في 7 أفريل 1971 بإكس –أون- بروفانس. تحصل على شهادة التبريز في الآداب من المدرسة العليا للأساتذة بباريس في عام 1930، ونال شهادة الدكتوراه في التاريخ تحت إشراف الأستاذ روبير مونتاي في جامعة السوربون في سنة 1948.
اشتغل الدكتور لوتورنو بالتعليم في المغرب والجزائر وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية (جامعة برنستون)، وتخرج عليه جيل كامل من الطلبة الفرنسيين والأمريكيين، وكذلك الجزائريين والتونسيين والمغاربة الذين سيلعبون دورا بارزا في الحياة السياسة والثقافية في المغرب العربي المستقل.
كما ساهم في تأسيس مراكز علمية حول الغرب الإسلامي، ومنها: مركز البحوث والدراسات حول المجتمعات المتوسطية الذي احتضن “مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط”. وإضافة إلى التدريس والالتزامات الإدارية، اهتم لوتورنو بالبحث العلمي، فألف كتبا عديدة في تاريخ الغرب الإسلامي، أذكر منها: “فاس قبل الحماية الفرنسية”، “دمشق من 1075 إلى 1154”، “الإسلام المعاصر”، “فاس في عهد المرينيين”، “الحياة اليومية في فاس في عام 1900 “، “تاريخ شمال إفريقيا”، “حركة الموحدين في شمال إفريقيا”، و “التطور السياسي لشمال إفريقيا المسلمة”. ويعد هذا الكتاب الأخير من المصادر الأساسية في تاريخ الحركة الوطنية في تونس والجزائر والمغرب.
كما نشر بحوثا كثيرة في المجلات الاستشراقية الصادرة في فرنسا وفي الدول الغربية والعربية، وأذكر بصفة خاصة “مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط” التي أثراها باستمرار بدراسات عميقة وعروضا نقدية للإصدارات الجديدة.
لقد صدر من هذه المجلة 50 عددا بين عامي 1966 و1988، تضمنت أكثر من 400 بحثا وعرضا للكتب. وتغيّر عنوانها في سنة 1989 لتصبح “مجلة الغرب الإسلامي والعالم الإسلامي” دون تغيير جذري في هيئة التحرير والخط الافتتاحي، وإنما توسعت من الناحية الجغرافية لتضم إلى اهتماماتها كل الدول الإسلامية وليس فقط البلدان التي تقع في جنوب البحر الأبيض المتوسط.
ولقد لعب الأستاذ بيير روبير بدويال دورا كبيرا في استمرار المجلة وتطويرها مضمونا وتحسينها شكلا. ومازالت هذه المجلة تصدر إلى اليوم لكن باسم جديد، وهو: ” مجلة الغرب الإسلامي والعوالم الإسلامية“!
وقد استطاع لوتورنو استقطاب عدد كبير من المستشرقين الفرنسيين والغربيين للمساهمة في هذه المجلة الأكاديمية أذكر منهم: جاك بيرك الخبير في علم الاجتماع السياسي العربي، ريجيس بلاشير المختص في الأدب العربي، بيير بوي المهتم بتاريخ الجزائر، وجبرائيل كامبس المختص في تاريخ المغرب العربي، برينو إيتيان الباحث في الدراسات السياسية والقانونية، روبير مونترون المختص في التاريخ العثماني، جون لويس مييج مؤرخ المغرب الأقصى المعاصر، وبرنارد لويس المستشرق الأمريكي المعروف…الخ.
كما استقطب أيضا لوتورنو مجموعة من الباحثين العرب والمسلمين سأتطرق إلى إسهاماتهم لاحقا.
الأعداد الخاصة والملفات المستفيضة
نشرت المجلة 12 عددا خاصا بين عام 1970 و1988، تناولت قضايا وأحداثا متعددة. استهلتها بأربعة أعداد مخصصة لتكريم الأستاذ روجيه لوتورنو. وشارك فيها أصدقاؤه وتلامذته بدراسات متنوعة حول المغرب العربي من جوانب تاريخية وأدبية واجتماعية، بالإضافة إلى ترجمة مستفيضة للمحتفى به كتبها الأستاذ أندري آدم من جامعة السوربون.
ثم استمرت المجلة بشكل عادي إلى غاية 1985 لتخصص بعد ذلك عددا حول العثمانيين في البحر الأبيض المتوسط من خلال التركيز على 3 محاور أساسية، وهي: البحرية، الدبلوماسية والتجارة.
ويبدو أن الأعداد الخاصة لقيت استحسانا من القراء والمشتركين، فأصدرت المجلة تباعا سلسلة من الأعداد الخاصة على شكل ملفات مستفيضة، بالإضافة إلى مقالات متنوعة في قضايا أخرى. وهكذا تناول العدد الأربعون (1985) موضوع الثقافة والمجتمع في الأندلس، بينما عالج العدد المزدوج الواحد والأربعون والثاني والأربعون (1986) موضوعا جغرافيا تمثل في الصحاري والجبال في المغرب العربي.
وقد أهديت مقالاته إلى الجغرافي الفرنسي المعروف جون دريش الذي تخصص في جغرافية بلدان شمال إفريقيا.
والتزمت المجلة بهذا النمط التحريري، فنشرت في عام 1987 أربعة محاور كبرى، وهي: العالم العربي: الهجرات والهويات، البربر: هوية في طريق البناء، العالم العربي: المجتمع، الأرض والسلطة، الإسكندرية بين عالمين. وفي عام 1988، اهتمت المجلة بثلاثة مواضيع أساسية، وهي: وسائل الإعلام في العالم العربي، العالم الإسلامي وتحديات الحدود، تركيا في مفترق الطرق.
ويشرف على كل ملف خبير فرنسي أو عربي بكتابة المقدمة ومقال، بينما يحرر المقالات الأخرى عدد من الباحثين الفرنسيين والمسلمين. وتتميز هذه الأبحاث بالدقة والتحليل وكثرة المعطيات المستمدة من الوثائق والمستوحاة من الأعمال الميدانية.
المحاور الكبرى للمجلة
لقد اهتمت المجلة منذ تأسيسها بتاريخ المغرب العربي، وليس ذلك غريبا، فقد أثر في توجهها المشرف عليها الذي كان مؤرخا، ففتح صفحات المجلة لأبرز المؤرخين الفرنسيين والمغاربيين المختصين في تاريخ المغرب العربي خاصة في الفترة الوسيطية والمعاصرة.
وهكذا نجد عددا كبيرا من البحوث حول مختلف الدول الإسلامية التي تعاقبت على حكم المغرب العربي في العصر الوسيط بأشهر الأقلام المختصة في هذا المجال.
كما نشرت دراسات كثيرة حول المغرب العربي الحديث والمعاصر بنفس الجدية والصرامة نجدها خاصة في مقالات المؤرخين المعروفين: شارل روبير آجرون، أندري نوشي، كسفييه ياكونو، وهنري تيراس.
احتل الأدب المرتبة الثانية في اهتمامات المشرفين على المجلة، فنشرت بحوثا عديدة حول الرواية المغاربية وخاصة المكتوبة باللغة الفرنسية بقلم مجموعة من الباحثين، أذكر منهم بالخصوص جون ديجو المعروف بأبحاثه في الأدب الجزائري المعاصر. واهتم جون فونتين بالأدب التونسي بعد عام 1956. وكتب شارل فيال عن القصة المصرية المعاصرة.
كما اهتمت المجلة بالتراث الجغرافي العربي بقلم الخبير في هذا المجال، وهو أندري ميكال، وتطرق جورج تروبو إلى وصف فرنسا كما ورد في كتاب الإدريسي “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
كذلك فيها دراسات اجتماعية، فنجد شارل بولا يدرس المكونات العرقية للمجتمعات المغاربية، بينما اهتمت إيفون تورين بالعلاج الطبي عند الجزائريين، وتابع أندري آدم التطور الاجتماعي الحاصل في المغرب الأقصى.
إسهامات الباحثين المسلمين
كانت غالبية الباحثين المسلمين المساهمين في هذه المجلة هم خريجو الجامعات الفرنسية، وبعضهم كان يدرس آنذاك في الجامعات الفرنسية. وتختلف هذه المساهمات من حيث الكمية والنوعية من باحث إلى آخر، فمنهم من اكتفى بمقال أو مقالين في مجال تخصصه الدقيق أو موضوع أطروحته للدكتوراه، أو تقريظ كتاب جديد.
ويمكن أن أشير هنا إلى بعض الباحثين الممثلين لهذا الصنف: محمد أركون الذي تطرق للتوسع الإسلامي في الجهة الغربية للبحر المتوسط، رشيد بورويبة الذي درس الدولة الحمادية من الناحية الأثرية والمذهبية، بينما كتب جيلالي صاري حول سكان منطقة الونشريس.
كما حلل محمد الهادي الشريف تطوّر تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وتطرق إبراهيم حركات إلى تاريخ الدولة السعدية، وتناول محمد برادة موضوع الغُربة في الرواية المغربية المعاصرة.
كما نجد من بين هؤلاء الباحثين من نشر بحوثا نفيسة عديدة، مثل رشيد بن شنب الذي كتب عدة دراسات حول تاريخ المسرح الجزائري، وكتب سالم شاكر حول الأدب الأمازيغي، ودرس علي مراد شخصيات ابن باديس والأمير خالد، وأنجز دراسة حول عيسى كما جاء في القرآن، بالإضافة إلى عرضه لبعض الإصدارات الجديدة.
كذلك كتب نور الدين سرييب حول أعلام الحركة الوطنية التونسية، وتعرض عبد الجليل التميمي لقضايا منهجية في تاريخ المغرب العربي والأندلس، وحلل البشير التليلي الفكر الإصلاحي التونسي المعاصر.
أما من حيث التوزيع الجغرافي للباحثين المشاركين، فإننا نجد الجزائريين في المرتبة الأولى، والتونسيين في الدرجة الثانية والمغاربة في المرتبة الثالثة. أما باقي العرب والمسلمين فهم قليلون جدا، أذكر منهم الباحث الهندي المقيم بباريس الدكتور محمد حميد الله الذي نشر دراسة حول إسهامات المسلمين في علم التاريخ.
هذه لمحة سريعة عن تاريخ “مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط”، وتذكير بأهم المساهمين فيها من المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين، ومازال تاريخها مفتوحا على مصراعيه، ما دامت تستمر في البحث في تراثنا القديم والحديث بصبر جميل، وإصرار كبير على مواصلة المشروع العلمي الذي وضع لبناته الأولى روجيه لوتورنو قبل نصف قرن.
فهل تستفيد مجلاتنا الثقافية والأكاديمية من تجربتها في الصمود أمام كل المعوّقات، والثبات على العطاء؟