
اشتد التنافس الفرنسي الألماني خلال قرن (1873-1973) في مجال الدراسات العربية، وإذا حق للإستشراق الألماني أن يفتخر بتيودور نولدكه الذي أبدع في الدراسات القرآنية، أو بكارل بروكلمان الذي أصدر كتبا وبحوثا كثيرة في الأدب العربي، فإن الاستشراق الفرنسي يحق له أن يفتخر بريجيس بلاشير الذي أبدع في الدراسات القرآنية والبحوث الأدبية العربية التي سنعرضها باختصار في هذا المقال، لكن بعد الوقوف عند أبرز المحطات في حياة هذا المستشرق الفرنسي العامرة بالعطاء العلمي.
محطات في مسيرة الحياة
ولد ريجيس بلاشير في 30 يونيو 1900 بمونروج، في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس. ثم هاجر مع أسرته في عام 1915إلى المغرب حيث اشتغل والده في الإدارة المحلية. درس العربية في ثانوية الدار البيضاء على المستشرق الفرنسي الكبير هنري ماسي صاحب المؤلفات المشهورة في التراث العربي وعُضو المجمع العلمي العربي بدمشق. وقد أظهر أثناء دراسته تفوقا فجعل ذلك الأستاذ يوليه عناية كبيرة ويوجهه نحو البحث العلمي في مجال الدراسات العربية، عِضوا من الإشتغال بالإدارة والترجمة.
وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا سافر إلى الجزائر لمواصلة تحصيله العلمي في الجامعة التي كانت آنذاك معقلا للمستشرقين الفرنسيين أمثال الإخوة جورج ووليم مارسيه ولفي بروفنسال، فنهل من معارفهم، واستفاد من خبرتهم وتجاربهم. تحصل على الليسانس في اللغة العربية في عام 1922 وشهادة التبريز في التخصص نفسه في سنة 1924.
بعد ذلك، عيّن مباشرة أستاذا في مدرسة مولاي يوسف بالرباط إلى غاية 1929، ثم عمل باحثا بالمعهد الدراسات المغربية العليا في الرباط الذي كان يديره آنذاك المستشرق الفرنسي الكبير هنري تيراس مؤسس مجلة “هسبيريس” للدراسات العربية. وهي ما زالت تصدر إلى اليوم في المغرب بنفس الجدية والرصانة العلمية. وكان خلال ذلك لا يكاد ينقطع عن مواصلة الدراسة والبحث العلمي سواء في مشروعه الدكتوراه وغيره.
عاد بلاشير إلى فرنسا في عام 1935 ليدرّس اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية الشهيرة الواقعة في 4 شارع ليل في الحي السابع بباريس، وهي مدرسة قائمة إلى اليوم تكوّن أجيالا من المختصين في اللغات الشرقية من الفرنسيين وغيرهم من الطلبة والباحثين القادمين من كل أصقاع العالم. لقد شكل هذا التعيين الاعتراف الأول بمكانته العلمية فقد خلف في هذا المنصب العالي بالمدرسة العريقة عالما مستشرقا معروفا وهو موريس غوديفروا ديمومبين الذي أحيل على التقاعد.
وبعد عام، ناقش رسالة الدكتوراه الدولة في جامعة السوربون حول الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي. وارتقى في عام 1950 إلى درجة أستاذ كرسي الأدب العربي في العصر الوسيط في جامعة السوربون، وبقي في هذا المنصب إلى غاية إحالته على التقاعد في سنة 1970.
وكان له نشاط واسع خارج الجامعة، فعمل مديرا لمعهد الدراسات الإسلامية التابع لأكاديمية العلوم من 1956 إلى غاية 1965. كما شارك في تأسيس جمعية تطوير العلوم الإسلامية. وعين عضوا في أكاديمية العلوم في جوان 1972. واصل ريجيس بلاشير نشاطه العلمي في فرنسا والعالم العربي بكل عزم وصبر إلى أن جاءته المنية في باريس في 7 أوت 1973، وقد ناهز ثلاثة وسبعين عاما.
وهناك نقطة أوّد أن ألفت إليها النظر بالنسبة لرجيس بلاشير وهي مواقفه من السياسة الفرنسية في مستعمراتها. لقد عبّر عنها منذ خمسينيات القرن الماضي في الصحافة وفي فضاءات متعددة إلى جانب مستشرقين وعلماء فرنسيين أمثال لويس ماسينيون وشارل أندري جوليان، وفرنسوا مورياك. لقد انتقد اللوبي الاستعماري الذي لم يتطور مع الأحداث العالمية والتغيرات الكبرى التي حصلت في العالم خاصة بعد الحرب الامبريالية الثانية. كما وقف بكل شجاعة إلى جانب الحركات التحررية في المغرب العربي التي واكبها، ودعا الحكومة الفرنسية إلى الاعتراف بحقوق الجزائريين والتونسيين والمغاربة الكاملة في الحرية والاستقلال.
علوم القرآن والسيرة النبوية
في عام 1950، نشر رجيس بلاشير ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى الفرنسية، حسب تسلسل نزول السور القرآنية وليس حسب الترتيب الوارد في المصحف الشريف. لكنه عاد في الطبعة الثانية في سنة 1957 إلى الترتيب الأصلي، رغم الشكوك التي كانت تنتابه حول الطريقة التي جمع بها المصحف في عهد عثمان بن عفان. وهي طريقة سليمة ودقيقة وليس فيها لبس وغموض. ومع ذلك، فلا نكران أن ترجمة بلاشير هي من أحسن الترجمات التي قام بها المستشرقون لمعاني القرآن منذ عام 1143 تحت إشراف الراهب الفرنسي بطرس المبجل رئيس دير كلوني بجنوب فرنسا، بينما تبقى المقدمة التي استهل بها بلاشير الترجمة آراء جديرة بالنقد والتصويب.
كذلك نشر بلاشير في مجال الدراسات القرآنية، مقالات حول بعض المصطلحات القرآنية، وتحديد الفروق الموجودة بينها مثل النفس والروح. (1948)، وقام بمقارنة الآيات القرآنية وفقرات من الأناجيل (1973).
وفي مجال السيرة النبوية، نشر بلاشير كتابا عن الرسول (ص)، وهي حصيلة محاضراته في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وناقش فيه فصولا من حياة الرسول (ص)، وشكك في كثير من الأحاديث النبوية لذلك قال بضرورة الاقتصار على القرآن في كتابة السيرة لأن الأحاديث النبوية تضمنت في نظره أخبارا ومعلومات تاريخية غير صحيحة، وضعها الرواة بعد وفاته لأغراض متعددة.
والحق أن هذا المنهج العلماني والتشكيكي المُــــــفرط نجده عند العديد من المستشرقين منهم على سبيل المثال: مونتغمري وات في كتابيته: “محمد في مكة” و”محمد في المدينة”، ومكسيم رودنسون في كتابه: “محمد”، يهملون الأحاديث الصحيحة، ويعتمدون على الأحاديث الضعيفة والإسرائليات لرسم صور وهمية أو مغشوشة عن حياة النبي (ص)! ولقد أدرك علماؤنا خطورة هذا المنهج فنبهوا إلى ذلك وانتقدوها كثيرا، وأشير هنا خصوصا إلى الدراسات الأكاديمية التي أعدها عماد الدين خليل، وعبد الله محمد النعيم في نقد كتابات وليم مونتغمري وات حول السيرة النبوية.
دراسات في اللغة والأدب
إن دراسة اللغة العربية ضرورية لمن يريد أن يتعرف على البيئة الاجتماعية للعرب ويطلع على الثقافة الإسلامية ويؤرخ لتطور الفكر العربي، وقد عنى بلاشير بهذا الجانب حين تعلمها حتى أتقنها، وحين وضع كتابا في النحو العربي في عام 1937 وهو يعمل آنذاك أستاذا للغة العربية بمدرسة اللغات الشرقية، ونال ذلك الكتاب شهرة واسعة في أوساط المستعربين، وظل سنين طويلة مرجعية لكل الدارسين للغة العربية. ثم أتبعه بعد سنتين بكتاب حول قواعد من اللغة العربية والذي طبع عدة مرات.
يضاف إلى هذا الجهد، جهد آخر وهو الاشتغال بعلم الدلالة وأصول اللغة، فقدم بحوثا عديدة حول الهمزة، وضبط المصطلحات مثل المقامة. أضف إلى هذا دراساته في علم العروض والبلاغة… إلى غير ذلك من الموضوعات اللغوية.
كان دائم الربط بين اللغة والأدب فكتب عن حركة تأليف المعاجم في الحضارة الإسلامية، وهو فن أبدع فيه المسلمون. وقد أولع بلاشير بهذا النمط من علم اللغة وهو متأثر بابن منظور وياقوت الحموي وغيرهما، فساهم بدوره في نشر قاموس عربي فرنسي إنجليزي بالاشتراك مع باحثين آخرين في 3 مجلدات (1967-1973)، وموسوعته في تاريخ الأدب العربي.
سبق أن أشرت إلى أن ريجيس عنى عناية خاصة بأعمال الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي، فخصص له رسالته التي نال بها شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون، ثم نشر عددا من المقالات حوله، وترجم كثيرا من أشعاره إلى اللغة الفرنسية، وأبرز دوره في تطوير الأدب العربي وتأثيراته الأدبية في المشرق والمغرب.
ونشر مقالات كثيرة في الأدب العربي، متعمقا في أساليبه وصوره، معرفا بأقطابه وأعلامه، متتبعا تطوره عبر العصور التاريخية، ومتوقفا عند منعرجاته الكبرى، متأملا في انتصاراته وانكساراته، ومتحفظا في طرق نقل الشعر القديم، ومنتقدا ظاهرة التقليد التي انتشرت في الأدب العربي في العصور المتأخرة، واعتبرها من أسباب انحطاط الثقافة الإسلامية.
وكتب سلسلة من الترجمات في دائرة المعارف الإسلامية عرّف فيها أكبر الأدباء والشعراء العرب في العصور القديمة والحديثة، أذكر منهم: أبو العتاهية، أبو الفرج الأصفهاني، عبد الله بن المقفع، أبو نواس، الجاحظ، بشار بن البرد، الفرزدق، أبو العلاء المعري، بديع الزمان الهمذاني…
ولم تقتصر بحوثه على الأدب العربي الكلاسيكي، فقد كتب أيضا حول الأدب العربي المعاصر في العراق ومصر، دارسا أعمال أحمد شوقي وتوفيق الحكيم في مصر، ومعروف الرصافي في العراق.
ويستمر ريجيس في البحث في هذا المجال حتى يصل إلى تأليف كتاب ضخم حول تاريخ الأدب العربي مكون من 3 مجلدات، عرض فيه ما أنتجه العرب والمسلمون في مجال الشعر والنثر من العصر الجاهلي إلى القرن الخامس عشر الميلادي. واستغرق هذا العمل الموسوعي 14 سنة، فقد صدر المجلد الأول في عام 1952، والثاني في سنة 1964، والمجلد الثالث في عام 1966.
ومما يؤكد أن بلاشير لم يعشق اللغة العربية عشقا عاديا أو علميا فحسبا، بل ما نجده من عمله بإصرار العنيد في ترسيمها في المدارس والجامعات الفرنسية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وهو مكلف بالتفتيش البيداغوجي من طرف وزارة التربية والمعارف الفرنسية.
المعارف الإنسانية والاجتماعية
اهتم رجيس بلاشير أيضا بالجوانب الهامة الأخرى في التراث العربي. فقد نقّب في تاريخ العلوم عند العرب، وأَلْفَت الانتباه إلى أهمية كتاب طبقات الأمم للقاضي سعيد الأندلسي المتوفى في طليطلة في عام 1070م. وهي دراسة عرفت بهذا الكتيب الذي صنف فيه صاحبه الأمم إلى 8 طبقات حسب اهتمامها بإنتاج العلم ونشر المعرفة، منها: الهنود، والفرس، والمصريون، الأوروبيون، العرب والإسرائيليون.
اهتم بعلم الجغرافية عند المسلمين، فنشر في عام 1932 في سلسلة المكتبة العربية التي تصدرها كلية الآداب لجامعة الجزائر كتابا عنوانه “مختارات أشهر الجغرافيين المسلمين في العصر الوسيط”. ثم تابع كتابه بمقال عن مدينة فاس المغربية في كتابات الجغرافيين العرب في العصر الوسيط. واستمر في دراسة المدن، فنشر بحثا عن مدينة القاهرة من خلال كتابات الرحالين العرب، وقدم محاضرة حول تأسيس مدينة القاهرة، في إطار ملتقى دولي منعقد في العاصمة المصرية في عام 1973 حول موضوع: “تاريخ القاهرة”.
وليس ذلك كل شيء، فكتب أيضا عدة دراسات عن عالم الاجتماع والمؤرخ عبد الرحمان بن خلدون، وأكد على الأبعاد الكونية لهذه الشخصية، فبين تفوقه على معاصريه، وأبرز إضافاته في الفكر الإنساني.
قد آن لي أن أذكر هنا أنه لا يمكن في هذا المقال الإحاطة بكل أعمال ريجيس بلاشير الذي قضى قرابة نصف قرن في البحث والتأليف في مجال التراث العربي، وحسبي الاكتفاء هنا بأعماله الأساسية التي توقفنا عندها بشكل سريع.
بلاشير بين المستشرقين
وما أود التأكيد عليه هنا بصدد الحديث عن علاقة ريجيس بلاشير بالمستشرقين هو حرصه الدائم على تمتين صلة الصداقة التي تجمعه بهؤلاء العلماء، بحيث شارك باستمرار في الأسفار التذكارية المخصصة لإحياء ذكراهم، سواء تعلق الأمر بأساتذته أو أصدقائه، بمقالات وبحوث قيمة أذكر منها: جوانب مجهولة في حياة السلكان المريني أبي الحسن (هنري باسي 1928)، الأمير الأموي الوليد بن يزيد ودوره الأدبي (غودفروا-ديمومبين، 1935)، العلماء العراقيون ومصادر أخبارهم بين القرنين الثاني والرابع الهجري (وليم مارسي، 1950)، حجة الوداع (لويس ماسينيون، 1956)، الشاعر والمؤرخ التونسي الباجي المسعودي (شارل أندري جوليان، 1964)، وتأملات حول تطور المـُعْجَمية (تأليف المعاجم) العربية (روجي لوتورنو، 1973).
وعلى ذكر التواصل العلمي، ساهم بلاشير أيضا بدراسات أدبية في الأسفار التذكارية المخصصة لمستشرقين أجانب مثل البريطاني هاملتون جب (1965)، والبلجيكي آرمون آبل (1973).
هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه كتب مقالات تأبينية عن أصدقائه وأساتذته: جون سوفاجي (المجلة الآسيوية،1951)، إيغريست لفي-بروفانسال (أرابيكا، وجريدة لوموند 1956)، وموريس غودفروا-ديمومبين (المجلة الأسيوية، 1957)، ولويس ماسينيون (لوموند، 1962).
وجزاء الإحسان إلا الإحسان. وهكذا حظيت أعماله باهتمام من قبل الدارسين في الغرب والشرق، وأذكر بالخصوص: إبراهيم الكيلاني، إبراهيم عوض، أحمد بدوي، و حورية الخمليشي. كما اهتم تلامذته بإحياء ذكره وجمع أعماله ونشرها بين الطلبة والباحثين. فقام تلميذه النجيب وهو هنري لاووست بتأبينه في الجلسة التي خصصته له أكاديمية العلوم الفرنسية باعتباره عضوا بارزا فيها. واهتم أيضا كثير من المستشرقين بعرض مؤلفاته ونقدها في أشهر المجلات الثقافية والتاريخية.
علاوة على ذلك قام المعهد الفرنسي بدمشق الذي كان يشرف عليه أحد مريديه، هو الأستاذ أندري ريمون بجمع مقالات بلاشير وبحوثه ومحاضراته لتعميم الفائدة خاصة وأن كثيرا من المجلات والصحف التي نشرت فيها للمرة الأولى أصبحت صعبة المنال. وقد صدر الكتاب في أكثر من 600 صفحة تضمن 34 دراسة، منها دراستان غير منشورتين من قبل. واحتوى الكتاب أيضا على مقالين لصديقه شارل أندري جوليان وتلميذه أندري ميكال تناولا جوانب من حياته وأعماله المثمرة.
هكذا سادت وتسود العلاقة بين النُخب في الغرب، وتتشكل شبكة العلاقات الفكرية، وتعلو الأعمال، وترفع الأسماء وتتطوّر العلوم وتنتشر المعارف، فهل نحن فاعلون؟