أحداث وطنية ومحلية
من "الزيغ" إلى "الغبْرطة" تدريس العامية ينزل المدرسة الجزائرية إلى الحضيض بقلم: حسين لقرع
أحدث “اقتراح” وزارة التربية الوطنية تدريس اللهجات العامية في التعليم التحضيري والسنتين الأولى والثانية ابتدائي، ابتداء من سبتمبر القادم، ضجة كبرى في أوساط الجزائريين، فقد جاء “الاقتراح” مفاجِئاً ودون أي مقدمات، ودون استشارة مختلف فعاليات المجتمع بل حتى الأسرة التربوية من معلمين وأساتذة ونقابات، ويُخشى الآن أن تُقرّ الحكومة هذا الإجراء وتمنح الضوء الأخضر لتطبيقه بعد أسابيع قليلة، وهو احتمال وارد بقوة، ما يضع ملايين الأطفال الجزائريين أمام مستقبل دراسي بالغ الغموض.
بقلم: حسين لقرع
بدأت “قصة” اقتراح تدريس العاميات الجزائرية في التعليم الابتدائي بحجّة استعمالها واسطة لإفهام التلاميذ اللغة الفصحى، بعد اختتام الندوة الوطنية لإطارات التربية التي نظمتها وزارة التربية يومي 26 و27 جويلية الفارط، حيث عقد إطاران من الوزارة ندوة صحفية وأعلنا أن الندوة قد توصّلت إلى توصيات كثيرة لـ“إصلاح” التعليم، ومنها توصية باعتماد اللهجات المحلية في الابتدائي بغية تجنيب الأطفال “صدمة” تعليمهم “لغة غربية عنهم”؟!
وفور اطّلاع الرأي العام على هذه التصريحات، قامت الدنيا ولم تقعد، وأنتاب المواطنين ذهولٌ عميق من فرط غرابة ما سمعوا؛ فلأول مرة يُقدّم هذا الاقتراح الغريب على أساس أنه هو “الحل الأمثل” لـ”إصلاح” المنظومة التربوية وتمكين التلاميذ من استيعاب ما يُقدّم لهم من دروس، وازداد عجبُ المواطنين، حينما انبرت الوزيرة بن غبريط لتدافع عن هذا الاقتراح بشراسة وتزعم أن اللغة العربية “المدرسية” كما أسمتها “عاجزة عن نقل المعرفة لتلاميذ الابتدائي” وأنهم غير قادرين على استيعابها، وأن “اللغات الأم” كما أسمتها أيضاً، هي التي تستطيع “نقل المعرفة للتلاميذ” حسب “خبراء اللسانيات” كما زعمت الوزيرة، ولذلك سيتمّ اعتمادها في الابتدائي بغرض جعلها “جسر تواصل” بينها وبين العربية الفصحى…
بالموازاة، برزت أنباء عن إلغاء امتحانات البكالوريا في مادتي التربية الإسلامية والتاريخ للشُّعب غير الأدبية، ما جعل الجزائريين يتأكدون بأن هناك مؤامرة دُبّرت بليل لعناصر الهوية الوطنية، وأسنِدتْ إلى بن غبريط مهمة تنفيذها في المدرسة الجزائرية لسلخ الأجيال القادمة عنها، وإضعاف ارتباطهم بها، خدمة لمصالح الأقلية الفرنكفونية العلمانية في الجزائر.
وهنا تصدى الكثير من الجزائريين الغيورين على عناصر هويتهم وانتفضوا للذود عنها ورفض “مقترحات” بن غبريط بقوة، وتساءل هؤلاء عن سرّ تقديم هذه المقترحات بهذا الشكل المستعجل، ودون استشارة واسعة لمختلف فعاليات الشعب وحتى الأسرة التربوية المعنية بتطبيق هذه “المقترحات” إذا وافقت عليها الحكومة، ومنها فئة المعلمين والأساتذة فضلاً عن إشراك نقابات التربية وجمعيات أولياء التلاميذ.. فلا أحد من هذه الفعاليات تمّت استشارته، بل تعمّدت وزارة التربية عقد هذه الندوة الوطنية المشبوهة، في ظروف غامضة، وبعد إقصاء فطاحل الخبراء التربويين المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة من المشاركة فيها حتى لا يشوّشوا عليها انطلاقا من قناعاتهم الأصيلة المعادية لسياسة “غبْرطة التعليم”، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عبد القادر فضيل، وفاطمة الزهراء حرّاث، وهما إطاران سابقان بوزارة التربية، وبعد يومين فقط من المناقشات التي تمت في دوائر مغلقة، خرجت الندوة بنتائج أقل ما يقال عنها إنها تعدّ الحلقة الثانية من سلسلة “إصلاحات” بن زاغو، فهي تستهدف هذه المرة ضرب العربية الفصحى في الصميم من خلال تعويمها بلهجات محلية كثيرة تختلف من منطقة إلى أخرى بجزائرنا الشاسعة، كما إنها لهجات هجينة ملوّثة بالمصطلحات الأجنبية، فكيف يمكن أن تكون هذه اللهجات المتداولة في الشارع وسيلة لتعليم الفصحى للتلاميذ، كما تزعم بن غبريط؟
أكثر من ذلك، زعم أحد إطارات وزارة التربية أن العربية الفصحى “لغة غريبة” عن الأطفال، وأن الشروع في دراستها في الأولى ابتدائي يشكّل “صدمة عنيفة” لهم، والأفضل تدريسهم العاميات الجزائرية التي تعوّدوا عليها في بيوتهم طيلة ست سنوات من أعمارهم، وأسمى هذه العاميات “اللغات الأم” للجزائريين، وهو تصريحٌ ينطوي على الكثير من الحقد على العربية، وعلى الكثير من التجني والعداوة التي تستند إلى إيديولوجية فرنكفونية تغريبية معادية لعناصر هوية الشعب، فمتى كانت العربية الفصحى لغة “غريبة” عن أطفالنا والحال أنهم تعوّدوا على سماعها من خلال برامج الرسوم المتحركة التي يتابعونها بكثافة في الفضائيات المختصة العربية؟ ألا يتابعها بعض أطفالنا وهم في الثانية من العمر؟
والغريب أن المفتش العام للبيداغوجيا، فريد برمضان، وهو بالمناسبة عضو بارز في لجنة بن زاغو، يزعم أنه “إجراءٌ تربوي بحت ولا علاقة للمسألة بالإيديولوجيا”، وأن “خبراء اللسانيات العالميين يؤيدون استعمال العاميات في التعليم الابتدائي”، لكنه لم يخبرنا: أيّ الدول تعتمد هذه الطريقة الغريبة؟ وهل تقبل فرنسا تدريس لهجاتها التي تفوق الأربعين لهجة في مدارسها على حساب اللغة الفرنسية؟ أم أن “القوم” عندنا لا يقتدون بفرنسا في المسائل العلمية الصارمة ويرضون لبلدنا ما لا ترضاه فرنسا لنفسها؟
اليوم حصحص الحق؛ المنظومة التربوية تسير نحو الحضيض ومن سيئ إلى أسوأ.. كنا ننتظر التراجع عن “إصلاحات” الزيغ، فإذا بـ“إصلاحات الغبْرطة” تنزل بمدرستنا إلى الدرك الأسفل، وإذا كنا لا نلوم الأقلية الفرنكفونية العلمانية على “وفائها” لايديولوجيتها المنسلِخة عن الشعب، والسعي إلى تطبيقها بشتى الوسائل على كل الجزائريين، فإننا نستغرب موقف السلطة: كيف ترى كل هذه المهازل ثم تقدّم لها الضوء الأخضر وتقبل بتجسيدها عوض إقالة أصحابها وإرسالهم إلى مزبلة التاريخ؟