أعلام الجمعيةالإمام محمد البشير الإبراهيميالتعريف بالجمعية
خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية (5)/ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
بلغ عدد المدارس الابتدائية العربية أربعمائة وزيادة, وبلغ عدد تلامذتها إلى اليوم الذي سافرت فيه إلى الشرق مئات الآلاف بين بنين وبنات, وبلغ عدد معلميها ألفًا وبضع مئات, وبلغت ميزانيتها الخاصة ( وهي فرع من الميزانية العامة لجمعية العلماء) مائة مليون فرنك وزيادة إلى نهاية خروجي من الجزائر سنة 1952. ولما بلغ عدد المتخرجين من مدارسنا بالشهادة الابتدائية عشرات الآلاف, وجدت نفسي أمام معضلة يتعسر حلها, ذلك أن حاملي هذه الشهادة ذاقوا حلاوة العلم فطلبوا المزيد, وأرهقوني من أمري عسرًا, وألحوا عليَّ أن أتقدم بهم خطوة إلى الأمام, وحرام علي- على حد تعبيرهم- أن أقف بهم دون غاياته, فكان واجبًا علي أن أخطو بهم إلى التعليم الثانوي, وأهبت بالأمة أن تعينني بقوة أبلغ بها غرض أبنائها, فاستجابت فكان ذلك مشجعًا على إنشاء معهد ثانوي بمدينة قسنطينة نسبناه إلى إمام النهضة ابن باديس, تخليدًا لذكره, واعترافًا بفضله على الشعب, فاشترينا دارًا عظيمة واسعة من دور عظماء البلدة, وجعلنا منها معهدًا ثانويًا, وهيأنا له من سنته الأساتذة والتلامذة والكتب المال, فكان التعليم فيه بالمعنى الكامل عند غيرنا من الأمم ببرامجه وكتبه وأدواته, وكان هذا المعهد تاجًا لمدارس جمعية العلماء وغرة في أعمالها, وكانت نيتي معقودة على إنشاء معهدين ثانويين آخرين, أحدهما بمدينة الجزائر, والثاني بمدينة تلمسان, وقد بلغ تلامذة المعهد الباديسي في السنة الأولى ألفًا أو يزيدون, وكلهم منتخبون من مدارسنا الابتدائية من جميع القطر, ثم اشترينا من مال الأمة دارًا أخرى تتسع لسكنى سبعمائة طالب, وبعد خروجي لهذه الرحلة افتتحها إخواني من بعدي بعد أن قسموها إلى قاعات نوم فسيحة بأسرتها, ودواليب الثياب, وكتب المطالعة, على ترتيب بديع, وفي الدار ما يريح الطالب من مغتسلات, وحمامات, ومطابخ, وغرف طعام.
مالية جمعية العلماء
مالية جمعية العلماء تأتيها من موردين: اشتراكات الشعب الشهرية والتبرعات غير المحدودة, وميزانيتها في السنوات الأخيرة أصبحت ضخمة وقد قسمتها إلى أقسام, فمالية بناء المدارس لا تدخل خزينة الجمعية, بل تقبضها الجمعية المحلية وتنفقها على البناء, فإذا تم البناء جرى الحساب علنًا على رؤوس الأشهاد بحضرتي وسُدَّ بابها, والمالية الخاصة بأجور المعلمين والقَوَمة على المدرسة تؤخذ من آباء التلاميذ بواسطة أمين مال الجمعية المحلية في مقابل إيصالات رسمية مختومة بختمها, ولكل مدرسة جمعية محلية قانونية تنتخبها جمعية العلماء من أعيان المدينة أو القرية, ولا تحاسب جمعية العلماء إلا في آخر السنة في الاجتماع العام, والمال الذي يتحصل من الاشتراك العام في جمعية العلماء هو الذي يدخل إلى خزانتها, ويحاسب عليه أمين مالها في التقرير المالي الذي يتقدم به إلى الاجتماع العام, ويضاف إليه ما يتحصل من التبرعات غير المحدودة. أما الجريدة فإنها قائمة بنفسها من أثمان الاشتراك فيها, وقد قررت في كل اجتماع عام أن تعرض على المجلس الإداري جميع المداخيل المذكورة م أجور التعليم, والاشتراكات العامة والتبرعات, كل ميزانية على حدة, وكل مدرسة يفيض دخلها على خرجها يدخل المبلغ الفائض في الخزينة العامة, وكل مدرسة ينقص دخلها عن خرجها يعتمد لها من الخزينة العامةما يسدد عجز ميزانيتها، وكل هذا على نظام بديع يؤدي إلى اشتراكية بين المدارس مع بعضها, وبين الشعب والجمعية المحلية.
أثر أعمالي وأعمال اخواني في الشعب
أثر أعمالنا في الشعب بارز لا ينكره حتى أعداؤنا من الاستعماريين, وخصومنا من إخواننا السياسيين, فمن آثارنا بث الوعي واليقظة في الشعب حتى أصبح يعرف ما له وما عليه, ومنها إحياء تاريخ الإسلام وأمجاد العرب التي كان الاستعمار يسد عليه منافذ شعاعها, حتى لا يتسرب إليه شيء من ذلك الشعاع, ومنها تطهير عقائد الإسلام وعباداته من أوضار الضلال والابتداع, وإبراز فضائل الإسلام, وأولها الاعتماد على النفس, وإيثار العزة والكرامة, والنفور من الذلة والاستكانة والاستسلام, ومنها أخذ كل شيء بالقوّة, ومنها العلم, هذه الكلمة الصغيرة التي تنطوي تحتها جميع الفضائل, ومنها بذل المال والنفس في سبيل الدين والوطن, ومنها نشر التحاب والتآخي بين أفراد المجتمع, ومنها التمسك بالحقائق لا بالخيالات والأوهام؛ فكل هذه الفضائل كان الاستعمار يغطيها عن قصد لينساها المسلمون على مر الزمان, بواسطة التجهيل وانزواء العقل والفكر, وقد وصل الشعب الجزائري إلى ما وصل إليه, بفضل جمعية العلماء, وما بذلناه من جهود في محو الرذائل التي مكن لها الاستعمار, وتثبيت الفضائل التي جاء بها الإسلام, ولو تأخر وجود الجمعية عشرين سنة أخرى لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا, ولو سلكنا سبيلاً غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمة وتوجيهها في السبيل السوي لما قامت هذه الثورة الجارفة في الجزائر, التي بيضت وجه العرب والمسلمين, ولو نشاء لقلنا إننا أحيينا اللسان العربي, والنخوة العربية, وأحيينا دين الإسلام وتاريخه المشرق, وأعدنا لهما سلطانهما على النفوس وتأثيرهما في العقول والأرواح, وشأنهما الأول في الاتعاظ والأسوة, فاحيينا بذلك كله الشعب الجزائري فعرف نفسه, فاندفع إلى الثورة يحطم الأغلال ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشة الكريمة, ويسعى إلى وصل تاريخه الحاضر بتاريخه الغابر.
مؤلفاتي
لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلاً, ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالاً, وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده, وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًّا, وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا, وحسبي هذا مقربًا من رضى الرب ورضى الشعب.
ومع ذلك فقد ساهمت بالكتابة في موضوعات مفيدة, ولكن لم يساعدني الفراغ ولا وجود المطابع على طبعها, وقد بقيت كلها مسودات في مكتبتي بالجزائر.
فمن أجلّ ما كتبت :
عيون البصائر: وهي من المقالات التي كتبتها بقلمي في جريدة (البصائر) في سلسلتها الثانية.
كتاب بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر, ( والتزمت فيها باللهجة السائدة اليوم في مواطن هلال بن عامر ).
كتاب النقايات والنفايات في لغة العرب: جمعت فيه كل ما جاء على وزن فعالة (من مختار الشيء أو مرذوله).
كتاب أسرار الضمائر في العربية.
كتاب التسمية بالمصدر.
كتاب الصفات التي جاءت على وزن فعَل بفتح العين.
كتاب نظام العربية في موازين كلماتها.
كتاب الاطراد والشذوذ في العربية: ( رسالة في الفرق بين لفظ المطرد والكثير عند ابن مالك ).
كتاب ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة.
رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان.
رواية: كاهنة أوراس بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال.
رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية.
كتاب حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام بدأت فيه من أيام إقامتي في دمشق بعد الحرب الأولى, وأتممته بعد ذلك في فترات, وبحثت فيه ينابيع المال في الإسلام, واستخرجت ينابيع أخرى غير منصوصة يلتجئ إليها جماعات المسلمين إذا حَزَبَهم أمر, أو فاجأتهم حادثة.
كتاب شُعَب الإيمان: جمعت فيه الأخلاق والفضائل الإسلامية.
وهناك محاضرات وأبحاث كتبها عني التلامذة في حين إلقائها, وهناك فتاوى متناثرة.
ولكن أعظم ما دونت, ملحمة رجزية نظمتها في السنين التي كنت فيها مبعدًا في الصحراء الوهرانية, وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه, وقد تضمنت فنونًا من المواضيع: تاريخ الإسلام ووصف لكثير من الفرق التي حدثت في عصرنا هذا, وللمجتمع الجزائري بجميع فرقه ونحله, ولأفانين في الهزل للمذاهب الاجتماعية والفكرية والسياسية المستجدة, والإنحاء على الابتداع في الدين, وتصوير لأولياء الشيطان, ومحاورات أدبية رائعة بينهم وبين الشيطان, ووصف للاستعمار ومكائده ودسائسه وحيله وتخديراته للشعوب للقضاء على مقوماتها.
ولم أقرأ للرجاز رجزًا سلسًا يلتحق بالشعر الفني مثل هذه الملحمة إلا لابن الخطيب في نظم الدول, ولشوقي في رجز دول العرب وعظماء الإسلام, ولبعض الشناقطة, وكان الرجز موقوفًا على نظم المتون العلمية, وهي مقيدة بالاصطلاح العلمي, لذلك كان باردًا بعيدًا عن الفن, خاليًا من الإشراق والروعة حتى عده المعري من سفساف القريض وتخيل للرجاز جنة حقيرة, وأنا أعتبره بحرًا كبقية بحور الشعر العربي يرتفع فيه أقوام وينخفض آخرون, ولمهيار الديلمي قصائد كثيرة من مسلسلاته من وزن هذا البحر, ولم يقعد بها عن الإجادة أنها من الرجز, وشوقي إمام الشعر في وقتنا هذا يقول في شأن الغاضّين من الرجز, الظانّين بأنه مركب لمن عجز:يرون رأيًا وأرى خلافه * الكأس لا تُقوِّم السلافه
خلاصة الخلاصة
1- ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306هـ, الموفق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م.
2- حفظت القرآن ومتون العلم الكبيرة وأنا ابن تسع سنين, وتلقيت علوم الدين والعربية في بيت أسرتي على عمي القائم بتربيتي الشيخ محمد المكي الإبراهيمي وكان علامة زمانه في العلوم العربية.
3- مات عمي وأنا ابن أربع عشرة سنة, بعد أن أجازني في العلوم التي تلقيتها عليه.
4- وهبني الله حافظة خارقة, وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف وكانتا معينتين لي في تحصيل العلم في هذا السن.
5- بعد موت عمي خلفته في إلقاء الدروس على تلامذته وغيرهم إلى أن جاوزت العشرين سنة.
6- بيتنا عريق في العلم خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة, بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب.
7- رحلت إلى المدينة أنا ووالدي مهاجرين, فرارًا من الاستعمار الفرنسي, فكنت من مدرسي الحرم النبوي الشريف, وتلقيت فيها علم التفسير, وعلم الحديث, رواية ودراية, وعلم الرجال وأنساب العرب, ومكثت في المدينة المنورة قريبًا من ست سنين, ثم انتقلنا إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى فكنت من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية بها مدة سنتين, في عهد حكومة الاستقلال العربي.
8- بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجعت إلى بلدي بالجزائر, وبقيت بها أنشر العلم في فترات متقطعة إلى سنة 1931 ميلادية, وكنت أحد اثنين يرجع لهما الفضل في تكوين جمعية العلماء أنا وعبد الحميد بن باديس, وكنت في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية بالجزائر من الابتدائية إلى العالية, وكنت أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن القطر الجزائري وقراه, وفي طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني وحرب التدجيل والابتداع في الدين وبث الوعي الوطني, وتصحيح الموازين الفكرية والعقلية في نفوس أفراد الشعب الجزائري.
9- بعد ظهور جمعية العلماء للوجود انغمست في أعمالها وتشكيلاتها وانقطعت إلى العلم وتأسيس مدارس ووضع برامجه, وكيلا لها في حياة ابن باديس ورئيسًا لها بعد موته على ما هو مفصل في الخلاصة, وفي سنة 1952 ميلادية رحلت إلى الشرق بتكليف من جمعيتي, وكان الباعث على هذه الرحلة أمرين :
الأول : السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر.
الثاني : مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة, لأن الميدان اتسع أمامها, والشعب الجزائري محدود القوّة المالية, إذا لم يعنّا إخواننا فربما تنتكس حركتنا, وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا.
وقد قدمت مصر ثم زرت باكستان والعراق وسوريا والحجاز. فأما قبول البعثات فقد حصلت فيه على الغرض, وأما الإعانة بالمال فقد كانت طفيفة, وقامت الثورة الجزائرية المباركة سنة 1954, واستفحل أمرها فانقطعت مكرهًا عن زيارة الجزائر.
10- تركت مسودات مؤلفاتي كلها بالجزائر ولم أصحبها معي لتطبع أو يطبع بعضها هنا كما كنت آمل, لأني لم أشأ أن أخلط عملاً عموميًّا للجزائر بعمل شخصي لنفسي.
وأنا أرجو للثورة الجزائرية التي شاركت في التمهيد لها وتهيئة أسبابها ختامًا جميلاً تنال به الجزائر حريتها واستقلالها.
نفعنا الله بما علَّمنا وبما علَّمْناه إنه مجازي العالمين المخلصين.