لا بدّ للراكض في حلبة السّباق العام من إلقاء نظره خفية فاحصة، يقيِّم بها المسافة المقطوعة ويزن بها ما بقي من المسافة المزروعة.
ولا بدّ للسّاري في عتمة الليل من الاستنجادِ بالكواكب والنّجوم حتّى يتبيّن الفجر الكاذب من الفجر الصّادق، فيصحِّح المسير، ويستعِدَّ لما بقي من مسافة السير.
تلك هي سنّة الله في الكون، يزرع الإنسان في البداية ليحصُد في النّهاية، ويستوي في ذلك حصاد الحقول، وحصاد العقول، قطف البقول وجني الغلول.
ونحن نعيش تقلّب الفصول في هذه الأيّام فتستوي حرارة المصيف بحرارة الرّبيع، وبرودة الخريف ببرودة الشتاء، لم يعد الإنسان، ولا سيما العربّي ينعمُ بزهر الرّبيع وراحة الهجيع، ولم يعد ينعم بدفء شمس الخريف أو جداوِل مياه الشتاء المنساقة بين الجبال والتلال.
سبحان مقلِّب الأحوال في وطني، حيث استوى الماء والخشبة، وجمَد الدّم في عروق المفاصل، ولحمِ الرّقبة.
ألا يحّق لنا، في ضوءِ هذه التغيّرات كلّها أن نقيِّم ونقوِّم الجهود المبذولة، والمخططات الموزونة، والمشاريع المغزولة؟.
ففي خضّمِ التقلّبات التي يعيشها وطننا العربي، من قتلِ الأخِ لأخيه، وسفكِ دماء بنيه، والسّطوِ على المسكن وساكنيه، يحقّ لنا أن نستعرضَ حصيلة السنة المنصرمة من عمر الجزائر، فنقول مع الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان: انتهينا منه، شيّعناه لم نأسف عليه.
فقد كان عامًا مليئًا بالسيئ من الأعمال، وخيبة الآمال، والإطالة في الآجال. فلئن نجا الوطن الجزائري من فتنة الرّبيع، فقد أحاطت بأطرافه بوادر شتّى من أنواع المؤامرات، وحبْكِ المناورات للإجهاز على ما مضى وما هو آت.
بدأ كلّ شيء بما يُسمّى الغليان، فاهتزّ الجنوب تحت وقع أسبابٍ عديدة، مثل الاحتجاج على الحقرة والتهميش في تقرت وورقلة، والمطالبةِ بحماية الذات من الغاز الصخري في عين صالح الذي هو ملوّث لمناخ المجتمع الصالح، وزيادة تكريس الماء المالح.
ثم أطلّت علينا من جديد فتنة غرداية وما جلبته على بلدنا من مآسي في فساد المقصد والغاية، وها نحن لا نزال نعاني من تبعات ما زرعه الكبار على مستقبل الصغار من تشويش على الأفكار، والمساهمة –عن غير وعي– في عملية الانتحار التي لم تسلم منها الحيوانات والأشجار، فضلا عن النّساء والأطفال، والرّكع من الشيوخ الكبار.
إنّ فتنة غرداية، هي إدانة لكلّ ضمير، ومحاكمة لكلّ مواطن حرّ صغير أو كبير. بل أنّها – أي هذه الفتنة – ستظلّ لعنة، تلاحق كلّ من يقرأ الكتاب، ومن يؤمن بحماية الذات من أنواع الخراب، وكلّ غيور على وحدة الوطن وصفاء العقيدة، وتماسك المذهب.
وبينما نحن لا نزال نعاني وطأة ورقلة وتقرت، وعين صالح، وغرداية، ابتلينا بمحنة “تحرير الخمور” وجعل هذه الآفة في متناول الجمهور، فترى الناس سكارى، وما هم بسكارى.
لقد حاول أعداؤنا بعد أن فشلت محاولات ضرب الحقول في تقرت، وورقلة، وعين صالح، أن يتسّللوا إلينا من جانب العقول، فيفسدوا علينا تماسكنا، ووحدتنا، وإفساد معتقداتنا في غرداية، وتلويث العقل بالمسكّرات ليعمّ الخمر ويُحسم الأمر.
وجاءت بالموازاة المصطلحات المظلومة التي وقع الترويج لها، تحت عنوان: “قوانين العنف ضدّ النساء” وهي كلمة حقّ أُريدَ بها باطل. فقد تصدينا –في جمعية العلماء– لكلّ هذه المخططات الرهيبة لبثّ الوعي لدى شعبنا من أنّ كلّ محاولة لزرع الفتنة بين الرجل والمرأة، أي بين المواطن والمواطنة، إنْ هيَ إلا محاولة يائسة لزرع الشِقاق داخل الأسرة وداخل المجتمع الجزائري المستقّر.
ولقد تحطمت كلّ هذه الأنواع من الفتن على صخرة الوطن والمواطن، بفضل الوعي الوطني والتحصّن الذاتي، والتصدّي لمؤامرات العدّو الداخلي والخارجي.
ونعتقِد أنّ هذه الفتن وإنْ فشلت مقدّماتها ونتائجها لأوّل وهلة، فإنّ مخرجوها، وملقنوها لم ييأسوا، وسوف يواصلون زرع فتنهم بعد تجديد الأسباب والوسائل، لتحقيق هدفهم اللّعين، وهو قلب ظهر المحن وزرع المزيد من المحن، والإجهاز على وجود المواطن والوطن.
ولعلّ آخر محاولة شيطانية تمثّلت في ندوة “إصلاح المنظومة التربوية” حيث خرج علينا مصلحوها، بإفساد العقل واللسان والجِنان، وذلك بمحاولة إدخال ما سموه “الدارجة” المحليّة في السنة الأولى ابتدائي على حساب اللغة العربية الفصحى، التي هي مفتاح العقيدة ولسان القرآن، وعامل الوحدة الوطنية.
وما توقفوا عند هذا الحدّ من الإفساد باسم الإصلاح، بل إنّهم عمِدوا إلى روح الشعب الجزائري، فطالبوا بإلغاء التاريخ، واللغة العربية، والتربية الإسلامية من امتحان الباكلوريا. فأيّ منطق علمي أو وطني أو سياسي يخوّل للقائمين على “إصلاح المنظومة التربوية” من اقتراح مثل هذه المتفجرات الفكرية والإلقاء بها في وجه الشعب الجزائري الطيّب؟.
إنّ في حصاد الأيّام، هذا الذي نسجّله في نهاية السنة الاجتماعية، والجامعية لمهماز يهزّ ضمائرنا، ويقضّ مضاجعنا، ويطالبنا بمزيد من اليقظة والوعي، فمخابر أعدائنا لا تتوّقف عن الإنتاج، وهي تعمل ليلا ونهارًا من أجل التشويش على الجزائر، تارة باسم الضمير المستنير، كما هو الحال في غرداية وغيرها، وتارة باسم الضمير الظاهر كما هو الحال في تصريحات الرئيس الفرنسي السابق “ساركوزي“.
إنّ المعركة متواصلة على أكثر من صعيد وويل للعرب من شرّ قد حلّ ولا أقول قد اقترب، كما يقول إمامنا الإبراهيمي.