لئن كانت شرذمة منا، ممن غلبت عليهم شقوتهم وكانوا قوما ضالين.. أي أولئك الذين تصفر وجوههم في يوم رمضان، وتسودّ وجوههم في يوم العيد، من “وكالي رمضان”، لئن كان هؤلاء ممن يتبرمون من رمضان، ولا يتمنون لقاءه. فإن المؤمنين، ممن اطمأنت قلوبهم بالإيمان، فابيضت وجوههم في أيام رمضان، وفي يوم العيد، هم على العكس من ذلك من يأسفون على انتهاء رمضان، لأنهم يتمنون لو كان الدهر كله رمضان.
إن الذين صاموا رمضان، إيمانا، واحتسابا، فتجافت جنوبهم عن المضاجع، وهجرت أجسادهم المخادع، صياما بالنهار وقياما بالليل، هم الذين ألِفوا رمضان، فهم يودعون فيه جملة من القيم لبسوها، ومجموعة من النظم ألفوها..
فرمضان، الصوم، هو من أعاد بناء النموذج الإنساني، بأعلى معانيه فينا: فسما بنا إلى أعلى مستويات الإنسانية، وقضى على كل مظاهر الأنانية، وأذاب كل آفات النوازع البشرية، وبعثنا من جديد، في صورة شبه ملائكية.
إننا نودع في رمضان –إذن- تلك الطمأنينة النفسية، التي تحليناها، والأخلاق النبيلة التي تعودناها، وقيم الحب، والتضامن، والتسامح التي تغذيناها.
وإذ نخضع رمضان للتأمل الدقيق، والتفكير العميق، فإننا، نفتقد فيه أحبة لنا، كنا نعدهم من الأخيار، كانوا مثلنا، بالأمس، يسرحون ويمرحون، فغيّبهم عنا، هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فسكنوا اللحود، وصاروا قوتا للدود، وبعد أن كانوا عظاما، صاروا عضاما.
كما أننا، ننزل واقع رمضان على أمتنا العربية الإسلامية، فتتراءى لنا، الفجوة العميقة، التي تفصل بين مبادئ وقيم رمضان، في تعاليمه وتراتيله، وترانيمه، وبين واقع مشين، حزين ومهين. فأمتنا، تمزقها الفتن والحروب، وتهزها المصائب والكروب، وتوشك شمس وجودها الحضاري، أن تأذن بالغروب..
يا لله! ماذا دهى أمتي، فاسود من بعد احمرار أفقها، فأظلم قمرها، وخسفت شمسها بسبب طغيان الأشرار واستبدادهم بأمرها؟
لماذا صار من يتجول في أرجاء أمتنا، لا يدخلها إلا خائفا مترقبا، ولا يعيش فيها إلا منزويا متنكيا تصم آذانه التفجيرات، ويقض مضاجعه أزير الطائرات، وشظايا المفرقعات؟
فغير بعيد منا، تطاردنا الرزايا في غرداية، حيث حيل بين الأخ وأخيه، وهدم البيت على ساكنيه، وأحرق الحقل أمام زارعيه، من الجبناء الملثمين الحاقدين على أهاليه.
يحدث كل هذا نهارا جهارا، ممن لا يرقبون في الوطن أو المواطن، إلاًّ ولا ذمة.. فيسيمونهما الخسف والهوان والذلة، وهم –يعلم الله- من المندسين الذين ليسوا سوى أقلية القلة. إنها مأساة وطن تتواصل في صمت أعيانه، وثورة شبانه، وتواطئ بعض سكانه، فعجز لإنقاذه علماؤه، وتبلد حكماؤه، وتكلس شهداؤه.
لقد استنجدنا بقيم رمضان، في فرض هدنة بلا إعلان، والصوم عن الفتنة والتنابز بين السكان، ولكن ما راعنا، إلا تصدع البنيان، وتمرد الإنسان، وتزايد الضحايا من الشيوخ والشبان، والنسوان. فياللهوان!
وما تعج به ساحة الجزائر، المنتحبة لهول أبنائها، تنفجر به وقائع أبناء أشقائها. فلم يبزغ أي بصيص من الأمل، في مسح الدموع، وتهدئة الربوع، وإعادة الأمن والأمان والطمأنينة إلى الجموع.
فلا يزال الظلم المنظم، هو الحاكم المطلق الذي لا معقب لحكمه. ولا يزال الفكر المظلم، هو السائد بفكره، وأمره، وقهره. فأية محنة حلت بأمتنا، فعطلت فيها طاقة التدبير، وحولت منهجية المسير، ولقنت شبكة الفكر التفكير، وينعكس ذلك كله –سلبا- على سوء المصير؟ أليس في أمتنا رأي رشيد، وكتاب حميد، وعقل سديد، وسلطان مجيد؟
هل كتب على أمتنا، أن لا تحل مشاكلها الداخلية إلا بتدخل الأجنبي، وتحييد العقل العربي، كما هو الحال في الشأن اليمني، والسوري أو الليبي؟
لذلك، فعندما نودع رمضان، وما بثه في روعنا من معالم الإيمان، والاطمئنان، نتذكر إخوة لنا، أبرياء، يقبعون خلف السجون والقضبان، يعانون الخسف، والعسف والهوان.. كما يتراءى لنا صبية برءاء، هجروا المأوى الوثير، والماء العذب النمير، وسكنوا الخيام، يلسع جسمهم النحيل، البرد الزمهرير، والحر الشديد العسير، ولا ذنب لهم، إلا أنهم ولدوا في وطن فقد حرية تقرير المصير، والحق في عيش المواطنة، ولو في الصف الأخير.
فوداعا يا رمضان! فبالرغم مما شهدته من أحداث دامية في ربوعنا، وتفجيرات عاتية في كامل أنحاء جموعنا، كنا نمني النفس المؤمنة في رحابك، من أن نستلهم منك مبادئ الحب والتسامح، وقيم العدل والتصالح، فيغسلوا حقدهم، وبغضهم، بمد أيدي التصافح، ويعلنوا، عن عودة الأخوة المفقودة، بإحياء منهج التصارح لتجاوز الفاسد من الفكر الآسن الطالح.
إن مأساة أمتنا، في رمضان، وفي شوال، وفي كل شهور الزمان، أنها فقدت كل معنى للضمير، وقطعت الصلة، بكل منطق للبناء والتعمير، فغلب عليها فكر التبديع والتكفير، وعطل لديها، كل طاقات الإبداع وحسن التفكير.
فيا رمضان!
إننا بالرغم من كل ما عشناه فيك من أحداث دامية، سنظل نذكرك بالخير، ونتوق إلى هِلالك، في السير، عسانا نهتدي ببعض ما بقي فينا، من نوازع الصوم إلى الإيمان، والدعوة إلى إشاعة الأمن والأمان، فعسى أن تعود إلينا يا رمضان، بأحسن حلة من حلتك، وأنبل خلة من خلتك، وسنظل نناجيك على لسان الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان: أعطنا حبا.. فبالحب كنوز الخير، فبنا تتفجر..