في كل عام تمرّ بنا في الشهر الكريم ذكرى بدر والفتح، نستلهم منها العبر، ونحاول الوقوف عند مقاصد ما حصل، غير أن أمرين-فيما أقدِّر- يحولان دون حصول الاعتبار المأمول، الأول: دخول التدين الذي نرفع به الشعار-منذ أمد- مرحلة الإلف والاعتياد، وانحصار مفهومه في الطقوس العبادية، والثاني: حالة الضعف والوهن التي تعيشها الأمة -بمجموعها- تجعل من هذا النظر مجرد أمنية تتعلق بالتاريخ، وقد تدفع ببعض المتحمسين إلى الذهاب بالذكرى مذهبا مغايرا، يضاعف من درجات التخلّف، نشدانا لخلاص فردي، لا يأبه أصحابه لما يترتب على خيارهم“الجهادي” من آثار على حساب الأمة، ما دام هذا الخيار-المتخذ تحت تأثير ظروف متداخلة- أقرب طريق إلى الجنة !
قال الحافظ ابن حجر في الفتح(7/441): “المراد بالفتح هنا-يقصد قوله تعالى{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}: الحديبية، لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين، لما ترتَّب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب، وتمَكَّن من يخشى الدخول في الإسلام والوصولَ إلى المدينة من ذلك، كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسبابُ بعضُها بعضا إلى أن كمُل الفتح، قال ابن إسحاق في المغازي عن الزهري: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظمَ منه، وإنما كان الكفر حيث القتال، فلما أمن الناس كلهم كلّمَ بعضُهم بعضا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلمخرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف”.
كلام هؤلاء الأئمة واضح لا لبس فيه، في أن هذا الدين يسيح بمبادئه في أجواء السلم والحرية، وأن الحروب تأتي بالصدود وتعمِّق الشروخ، ولا تنتهي إلى وئام حقيقي، والمقارنات التي عُقدت بين أعداد المسلمين الأُول في الحديبية وفتح مكة خير دليل على ذلك، ووسيلة ذلك الأمن وعلاقته بالتواصل والحوار، وما ينتج عنهما من ثقة تُتبادل، ولذلك أزعم أن استغلالا مريعا يجري اليوم لأحداث، تُشن بسببها حروب، وتُراق دماء، وتُشحن عواطف وتجيش أحقاد، ومن أهداف ذلك أولا: إحداث شروخ نفسية يصعب أن تندمل أو تلتئم، على المستوى البيني، وثانيا: ربط هذا الدين بالحروب والدماء، لإبعاد غير المسلمين عن البحث عن ملاذات آمنة محتملة- يبحث عنها اليائسون عادة- قد يجدونها في رحاب الإسلام.
لقد كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عقد صلح الحديبية -بالرغم من تعنّت المشركين- ضمن هذا السياق، وكان تمهيدا لفتح مكة، الذي كان بسبب خرق قريش لمبادىء الهدنة، وكانت كل وقائع الظلم والجبروت القرشي تبرر القيام بقدر من الانتقام من الزعماء على الأقل، ومع ذلك حدث العفو الكبير الذي أصدره النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة كلهم، ليبقى دليلا دامغا على طبيعة هذا الدين السلمية، وما أحسب ذلك العفو إلا تمهيدا لطريق الهداية، لأولئك الذي أعمت الأحقاد بصائرهم، حتى يأنسوا ويأمنوا، ولذلك جاء إسلام هند بنت عتبة، تتويجا لأجواء السلم التي أشاعها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان يمكن القول بأن إسلامها وإسلام غيرها كان استسلاما، أكثر منه اقتناعا بالدين الجديد، وكان يمكن القبول بهذا التحليل لولا ما صرّحت به مختارة حين رأت النبي: “يا رسول الله: والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك..”(صحيح البخاري:9/66)