إن أكبر التحديات التي تلاقي جماعة المسلمين في أي قطر من الأقطار المسلمة بعد انفراط عقد الخلافة الإسلامية بتآمر خصومها ومكرهم الشديد بها، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، هو الحفاظ على لحمة الأفراد من الانقطاع والانقسام والتشرذم وذهاب الريح، فكم من فتنة قاصمة للظهر تبدأ بتحريك شياطين الإنس لأناس من أبناء الجلدة يرفعون أصواتهم بدعوى الجاهلية الأولى، فتطيش العقول، وتحقد القلوب، ثم تُرفع السيوف لتكون اللغة الفريدة السائدة، فلا يستيقظ الناس من غفلتهم حتى تسيل الدماء أودية، ويتحول العمران إلى خراب..!
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه من الانصياع وراء العصبيات القاتلة مهما تكن طينتها، لأن هذا من الظلم الذي يبغضه الله ورسوله، فعن فسيلة قالت سمعت أبي يقول سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه ؟ قال: ” لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم”. رواه ابن ماجة.
وعن جبير بن مطعم- رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:” ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”. رواه أبو داود.
وأخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: “كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما بال دعوى جاهلية ؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال:“دعوها فإنها منتنة”. فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها ؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم : دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه”.
كانت ولاية غرداية بلدة طيبة يُضرب بها المثل في التماسك الاجتماعي، والحفاظ على مقومات الهوية الوطنية من دين ولغة، وكان الإسلام الذي ألف بين القلوب العنصر القوي
لتماسك هذه البلدة، ولكن شياطين الإنس الذين راعهم هذا الترابط حاولوا وما يزالون يحاولون بين الحين والآخر زرع الفتن فيها، ما ظهر منها وما بطن، ليتم تصديرها إلى باقي ربوع الوطن ليُعبد بعد الإيمان الوثن..!
إن الأصوات المرفوعة من هنا وهناك لتأجيج الخصومة بين أبناء الوطن الواحد، وأبناء الدين الواحد هي أبواق الشيطان اللعين التي تنفخ لتأجيج نار الفتن الملعونة، وهي مدركة لما تفعل، ومخططة لكي تعمل في هذا الاتجاه حتى تصل إلى مبتغاها التهديمي، ولن تصل أبدا-بإذن الله- إنْ توحد العقلاء لصد هذا التوجه بكشف المتربصين والخائضين في الباطل، والعاملين له، وبنشر أسباب التواد والتعاطف والتراحم بين الأشقاء بالموعظة الحسنة والتوعية الفاعلة، وتسليط سيف القانون على كل خارج من دائرة الجماعة والناشر لأسباب الفرقة والاقتتال…
وإن ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان…ولله الأمر من قبل ومن بعد.